في كتابه: “مهماتنا السياسية”، المكتوب والصادر في عام 1904، يتنبأ ليون تروتسكي بمصير الاتحاد السوفياتي، عندما يرى، أثناء نقده لنظرية الطليعة الحزبية المقدمة في كتاب لينين: “ما العمل؟” والصادر عام 1902، بأن نظرية الحزب المقدمة من لينين في هذا الكتاب ستقود إلى استبدال وحلول الحزب محل الطبقة الاجتماعية (أي البروليتاريا) وإلى “استبدال وحلول التنظيم الحزبي محل الحزب ثم اللجنة المركزية محل التنظيم الحزبي ثم بالنهاية حلول ديكتاتور محل اللجنة المركزية”. صحيح أن تروتسكي بعد انضمامه للحزب البلشفي في صيف 1917 قد حاول طمس نقده الوارد في ذلك الكتاب للينين ما دام الزعيم البلشفي قد اقترب عام 1917 من نظرية “الثورة الدائمة” من خلال كتابه “موضوعات نيسان” لما لم يعد يفصل بين المهمات الديمقراطية والاشتراكية كما في كتاب “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية” الصادر عام 1905، إلا أن نقد تروتسكي مازال حياً حتى أيامنا هذه، كما أن محاولة تروتسكي، في أثناء خلافه وصدامه مع ستالين بفترة 1924-1940 حتى اغتياله في المكسيك، إيجاد فصل بين اللينينية والستالينية ينقضها كتابه الصادر في عام 1904.
ليس ما يقدمه كتاب “مهماتنا السياسية” مسألة نظرية وليست هي مسألة تخص الشيوعيين مادامت نظرية الطليعة الحزبية المقدمة في كتاب “ما العمل؟” قد استنسخت من قبل العروبيين بطبعتيهم البعثية والناصرية وقد وصلت الأمور عند عبدالناصر إلى إنشاء “التنظيم الطليعي” الذي كان تنظيماً سرياً في (الاتحاد الاشتراكي)، كما أن حسن حنفي يسمي كتاب سيد قطب: “معالم في الطريق” بكتاب “ما العمل الإسلاميين” حيث يتحدث قطب عن “الطليعة المؤمنة” في “المجتمع الجاهلي” التي ستعيد المسلمين إلى “النبع الأول” في عهد النبوة وهذا لا يتم من دون “طليعة تعزم هذه العزمة وتمضي في الطريق، ولا بد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من (معالم في الطريق)، (سيد قطب: “معالم في الطريق”، مكتبة وهبة، القاهرة1964، ص ص 10-11)، وهنا لابد من التذكير بأن السيد علي الخامنئي قد ترجم كتب سيد قطب للفارسية وبأن كتب قطب تدرس في مدارس إعداد قادة وكوادر (الحرس الثوري الايراني).
أيضاً، في كتاب “مهماتنا السياسية” يتنبأ تروتسكي أيضاً بمصائر يعقوبية للبلاشفة حيث ترافقت المقصلة مع حكم اليعاقبة في الثورة الفرنسية بزعامة روبسبيير، وبشكل “ما” هناك ترابط بين ديكتاتورية اليعاقبة وبين المقصلة، وهو أمر يمكن أن نلاحظه عند ستالين الذي ديكتاتوريته في الحزب انتقلت إلى ديكتاتورية على المجتمع والدولة مع حصر كل السلطات بيديه، كما أن التصفيات الدموية عند ستالين التي طالت قادة الحزب ومنهم القادة التاريخيين للحزب البلشفي (كامينيف- زينوفييف- بوخارين..إلخ) قد كانت مترافقة مع الإجبار العنيف الدموي للفلاحين على الانتظام في الكولخوزات بفترة 1929-1929 ومع القمع العنيف الذي مورس من ستالين لكل من يخالفه في المجتمع السوفياتي. يرى تروتسكي أن النزعة اليعقوبية عند البلاشفة تأتي من نظرية الطليعة الحزبية التي تضمر “عدم الثقة والشك بالقوى غير المنظمة وبالمستقبل”، وهو شيء يراه تروتسكي موجوداً عند اليعاقبة الذين حاولوا معالجة خوفهم من القوى المجتمعية الأخرى ومن خصومهم الكثر بالمقصلة، ويمكن تلخيص اليعقوبية بقول روبسبيير الذي يورده تروتسكي: “أنا أرى أنه لا يوجد سوى فريقين، أولئك الذين هم مواطنون جيدون، وأولئك السيئون”، وبالتأكيد في نظر روبسبيير الجيد هو الذي يقف معه والسيء من الذي يقف ضده ،وهذا لا يشمل المجتمع فقط ولا التنظيمات الصديقة والمعادية بل يصل ويطال تنظيم روبسبيير نفسه أي اليعاقبة، وهو تصنيف متحرك وغير ثابت مثل ميزان الحرارة صعوداً ونزولاً.
عملياً، كان هناك نسخ من ستالين والستالينية في الغالبية العظمى من الأحزاب الشيوعية العالمية، ماعدا استثناءات في ايطالية واسبانية وفييتنام وتشيلي، كما أن ديكتاتوراً مثل صدام حسين كان معجباً بستالين كما يروي الكثير من الذين تعرفوا عليه عن قرب. في هذا الإطار يمكن القول بأن نظرية الطليعة قد قادت إلى الديكتاتورية والأخيرة قادت إلى الدموية ويمكن أن يضاف طابق رابع هو الشمولية.
هنا، النظام أو السلطة الشمولية تعني ما تعنيه نظرية الطليعة من حيث أن الطبقة الاجتماعية التي تمثلها سياسياً الطليعة الحزبية لا تستطيع حسب لينين الوصول “لأكثر من الوعي العفوي” وأن الوعي الطبقي السياسي “يتم تصديره إليها” عبر الطليعة. هذا في مرحلة ما قبل الوصول للسلطة عبر الثورة، أما بعد السلطة فإن الطليعية تستمر ويتم التعامل وفق منطق الهندسة الاجتماعية حيث تصبح الطليعة قائدة للدولة والمجتمع تعيد هندسة وبناء المجتمع والأفراد وفقاً للمشروع الثوري، وكأنهما عجينة تعيد صنعها وصياغتها وفق مشروعها، ومن يعترض أو يخالف يكون السيف أو المقصلة (أو السجن) له بالمرصاد. في الأنظمة الشمولية التي تعني شمول أذرع السلطة وامتدادها نحو السيطرة على مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة والثقافة ومحو استقلال المجتمع والفرد هناك أيضاً تحصل استبدالية حيث لا يقتصر الأمر على استبدال المجتمع بالسلطة بل السلطة أيضاً يتم محو تراتبيتها لكي تستبدل وتتركز بنطاق مصغر ضيق في حزب أو لجنة عسكرية أو فرد واحد.