في سياق ما درج على تسميته”أهداف الثورة” (الحرية والكرامة وإسقاط النظام) غابت الإشارة إلى الديمقراطية، التي بدت أقل جاذبية وحضوراً، ذلك أنّ المشروع الديمقراطيّ يعني في باب ما، ترسيم وجه النظام السياسي المقبل في مقابل القطع مع الديكتاتورية، وهذا الترسيم، البالغ الأهمية، لم يحاكِ خيال قوى واتجاهات معارضة رأت في الثورة فرصة سعيدة لتولّي الحكم، هكذا بالشكل العاري للكلمة: تولّي الحكم، فيما رفعت التعبيرات والقوى الإسلامويّة ذات التحالفات الإقليمية داخل المعارضة، مقاتلين ونخب مدنيّة، شعارات عدائية بيّنة حيث “الديمقراطية شرك” و”كفر”، أو أنّ الديمقراطية تبعاً لتكتيكات نخبهم ما هي إلّا سلّم للصعود، مرّة واحدة وأخيرة، إلى السلطة، ولعلّ تجربة اعتلاء تلك القوى لمنابر المعارضة المدعومة إقليمياً واحتكارها العمل المعارض، يعكس حقيقة طموحاتها، حيث البحث عن السلطة، أيُّ سلطة، وهو ما رسّخ فكرة مفادها أنّ طبيعة الصراع ما هو إلّا مواجهة بين معارضة تسلّطية ونظام متسلّط.
لم تكن التجارب السابقة الساعية إلى إقامة قطب ديمقراطي، سوى طريقة، أو تكتيكاً بائساً، سعى أصحابها إلى إقناع الإسلامويين بإمكانية تشكيل تحالفات سياسية، كان المستفيد الوحيد منها هم الإسلامويون بطبيعة الحال، أي أن الغرض من التجمّعات “الديمقراطية” السابقة كان من أجل نيل كرسيّ داخل هيئة التفاوض أو اللجنة الدستورية، ثم بعد كل تلك التكتيكات الهزيلة نتساءل لمَ يفشل الديمقراطيون؟ وعوضاً عن تدارس أسباب الفشل يسعى هؤلاء المتحلّقين حول جماعات الإسلام السياسي والجهادي إلى التخلّي عن الشرط الديمقراطي بدل الإقلاع عن تلك التكتيات المكرّرة والانتهازيّة.
في هذه الأثناء ثمّة محاولة، تخاض على مستوى تجميع قوى وشخصيات معارضة للإعلان عن “مؤتمر للقوى والشخصيات الديمقراطية”، قد ينبثق عنها تحالف سياسيّ جديد، فيما جاء لقاء هذه القوى والشخصيات التشاوري للحديث عن “الضرورة والممكنات والمأمول” والذي انعقد بتاريخ 13- 14 من هذا الشهر برعاية ودعم من مركز أولف بالمه الدولي (السويدي)، فكانت الرعاية لا تخلو من رغبة الاستثمار في العلاقة مع الجماعات المتباعدة حالياً، والمتنافرة أحياناً، أي الديمقراطيين السوريين، ممن قد يشكّلون لاحقاً المكافئ المطلوب للقوّتين المتسلّطتين، النظام والمعارضة الإسلاموية، مع ما يتطلّبه التلاقي من بناء بيت ديمقراطي متخيّل وبما يوفّر مساحة للاستقلال الشخصيّ للمشاركين بعيداً عن الضغوط الإقليمية، أو الاتهامات بموالاة الكرد أو مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) على ما تحمله الاتهامات من “مكارثية” معمّمة وحاضرة بقوّة.
لكن ما الذي يدفع دولةً بحجم السويد، وبحساسيتها الفائقة لمسائل حقوق الإنسان والديمقراطية إلى أن تنحاز لهذا المشروع؟ وهل تأتي هذه الحماسة السويدية بمعزل عمّا يوازيها أمريكياً وإن بشكل مضمر؟ وإذا كانت الإجابة في عهدة الرسميين والناشطين السويديين، فإن تفسير الحماسة قائم أيضاً على أنّ جزءاً مهمّاً من الداعين للمؤتمر، أي مسد، تحتكم على سيطرة فعلية لجزء واسع من البلاد، وهذا قد يمنح القوى الديمقراطية مساحة خضراء للعمل انطلاقاً من الداخل بدل أن تتحوّل المعارضة الديمقراطية إلى ظاهرة صوتيّة، ومقطوعة النسب مع الداخل، ولا يعني ذلك أن شمال شرقي سوريا واحة تخلو من المشاكل والمنغّصات، لكنّها الجزء المتاح حالياً لأن تصبح سوريا الممكنة حال توفّر الشرط الديمقراطي فيها، أو على الأقل بإمكانها أن تصبح سوريا المتاحة للجميع.
ولئن كان التفتيش في النوايا يمثّل مسألةً متصلة بغياب الحياة الديمقراطية في البلاد، فإنّ التشكيك في نوايا المشاركين أو الداعين للمؤتمر يبعدنا أكثر عن إمكانية المضيّ في شيء عمليّ، ويبقينا في النظرية بدل الممارسة، ويؤخّر الديمقراطيين عن بناء كيان سياسي تتفاعل بداخله القوى والشخصيات الديمقراطية، وأما التفكير في بناء بيت للديمقراطيين، فوق أنّه يعزّز من فرص الحديث عن العلمانية والمجتمع التعدّدي والعودة إلى السياسة بدل الهذر الحاصل والتبعيّة المخزية للخارج، فإنّ تجمّع الديمقراطيين يساهم في إعادة تعريف الحالة الراهنة، بوصفها “قضية سوريّة” تسعى للتحرّر من سطوة الخارج ومن الاستبداد وبطبيعة الحال من الإرهاب.
قد يصح القول بأن في سوريا ثمة ديمقراطيون بلا ديمقراطية، أي ديمقراطيون بلا مختبر حقيقي للأفكار والتصوّرات والممارسات، ولا يعني أيضاً أن انتظام هذه القوى والشخصيات الموافقة على الخيار الديمقراطي سيؤدي بالضرورة إلى إيجاد حل للمأساة السورية، لكن انتظاماً في كيان سياسيّ أو تحالفاً بين القوى والشخصيات الديمقراطية قد يمهّد الطريق نحو الحل، وقد يصنع من رميم الثورة، قضيّة سوريّة، أساسها التغيير ومآلها الديمقراطية للبلاد.
عودة الديمقراطيين إلى داخل المشهد عبر إقامة تجمّعاتهم وتحالفاتهم السياسيّة، قد يعيد شيئاً من روح السياسة الغائبة، لكن حظوظ الديمقراطيين تبقى معلّقة على قدرتهم على الانتظام والتحالف وعلى القبول المتبادل، وقبل كل شيء التوقّف عن التفتيش في النوايا، والتركيز على تبادل المصالح.