حلب- نورث برس
لم تعد المواظبة على صلاة الجماعة وحضور الدروس الدينية بعد صلاة المغرب تشد ناشد الملاح (30 عاماً)، وهو من سكان مدينة حلب شمالي سوريا، وذلك رغم أنه يصف معتقداته قبل سنوات الحرب بالمتشددة.
فالشاب الذي أنهى دراسته الجامعية في قسم اللغة العربية قبل عامين ينتمي لأسرة حلبية ميسورة الحال ومعروفة بتدينها، لكنه لم يعد يضع في سلم أولوياته ممارسة الشعائر الدينية والتمسك الشديد بها.
وفي حلب المعروفة بمجتمعها الديني المحافظ في غالبيته، يعتقد شبان أن المفاهيم الدينية التقليدية في أذهانهم كانت لا تخلو من “التشدد”.
ويشير بعضهم لتأثير عوامل التطرف الديني والشحن الطائفي خلال الحرب والأزمات الاقتصادية، فالمساجد، وفق قولهم، تشهد إقبالاً أقل بكثير مما كان سابقاً، لا سيما من الشباب.
ووصل الأمر درجة إعلان البعض أنهم “لا دينيون” بعد أن كانوا يبتعدون عن نقاشات بسيطة لعدم الوقوع في “الحرام”، لكن يرى آخرون أن هذه الحالات موجودة في حلب وكل المجتمعات حتى قبل سنوات الحرب، وأنها تبقى فردية لا ترقى لوصفها بالظاهرة.
يقول “الملاح” لنورث برس إنه ملتزم بدينه دون تعصب.
ويضيف أنه تعلم من محيطه الاجتماعي الخوف من الله منذ طفولته، “نتقرب من الله ونصلي ونصوم خوفاً منه وكل ما نفعله في حياتنا يجب أن لا يغضبه”.
ويشير إلى أنه حتى في المساجد وعلى يد رجال الدين وفي المدرسة على يد المعلمين يتم تعزيز فكرة الخوف والتشدد في الدين، “كبرنا على هذه الأفكار وتربينا عليها وكانت النتيجة أننا أصبحنا متعصبين لأفكارنا ونعيش في قوقعة التزمت”.
حدة وتشدد
ويتذكر الشاب “الملاح” نقاشات بينه وزملاء له في الجامعة وكيف كان الجدال يحتد بسبب تشدده في رأيه حتى يعلن القطيعة معهم على أساس “أنهم كفار”.
يقول إن اطلاعه على “أبحاث جديدة خاصة بالأفكار التجديدية في الدين ومراجعته للتاريخ الإسلامي من منظور نقدي”، أحدث تغييراً في نمط تفكيره.
ويصف تفكيره الآن: “تغير تفكيري بداية من نظرتي للخالق عز وجل فهو رحمة مطلقة وليس خالق ينتظر منا ممارسة طقوس دينية ليعفينا من العقاب، أنا ملتزم بديني ولكن دون أن ألبس عباءة التعصب والجهل”.
لكن تفكير الشاب لا يلقى صدى إيجابياً لدى السكان وخاصة من يكبرونه سناً في محيطه، إذ يخبرونه أن أتباع “العلمانية واللادينية سيواجهون بئس المصير”.
وفي حين يمتلك هو الجرأة لطرح أفكاره الناقدة للدين، يمتنع آخرون عن ذلك “تجنباً لخلافات وجدالات عقيمة”، على حد تعبير شاب فضل الاحتفاظ بنظرته للإيمان والدين لنفسه.
ويرى عبد الله حجار (69 عاماً)، وهو باحث ديني وتاريخي في حلب، أن الحرب ونظرة الشبان لرجال الدين التابعين للحكومة وما حققوه من مكاسب وثروات في ظل المعاناة الاقتصادية التي يعيشها معظم السكان عوامل أدت لمراجعة مفاهيم تلقوها من رجال دين.
كما أن التطور التقني وخاصة في ظل سهولة الحصول على المعلومة عبر شبكة الانترنت والتواصل الاجتماعي، أتاحت للشبان جرأة خوض مراجعة شاملة للأفكار الموروثة، “خاصة تلك التي تعرقل الفكر وتعيق عجلة التطور والحداثة”، بحسب “حجار”.
“صورة متشددين“
ويشير الباحث إلى أن الكتب الدينية عندما تطلب من الشباب تطويل اللحية وارتداء ثوب فضفاض وتقصيره لحد الركبة يرسم صورة ما فعلته التنظيمات المتشددة خلال الحرب، “وسيؤدي الأمر حتماً لتوجه الشبان إلى أفكار أكثر انفتاحاً”.
ويعتقد “حجار” أن الحداثة تتطلب أساليب حياة عصرية لا تتحقق في ظل تشريعات عفا عليها الزمن.
ويقول إن غياب الجرأة عند المنظومة الدينية الحكومية وغير الحكومية قبيل الحرب لإجراء مراجعة شاملة للتراث الديني وتحديث تشريعاته لتواكب التطور والزمن الراهن، أدى إلى التشتت الفكري والعقائدي لدى الشبان سواء نحو الغلو والتشدد أو نحو اللادينية والإلحاد.
ويرى أن هذه الحالات موجودة في المناطق السورية عموماً وليس في حلبوحدها، وأن الأمر يحتاج توجيهاً حقيقياً نحو الإيمان الروحي والتدين الوسطي المعتدل.
وما زالت
أما وحيد أبو الذهب (35 عاماً)، وهو صيدلي في حلب، يقول إن مشاهد قطع الرؤوس التي نفذتها فصائل إسلامية متشددة وجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بحق مخالفين سوريين، بقيت حاضرة في ذاكرته.
وإن الأمر دفعه، رغم تزمته الديني، للبحث في كتب التراث الديني عن سبب ارتكاب تلك الفظائع تحت يافطة الدين وفيما إذا كان التاريخ الإسلامي شهد أحداثاً مماثلة أم لا.
يقول “أبو ذهب” إنه صُدم أثناء قراءة كتب التاريخ الإسلامي وخاصة تلك التي تتحدث عن الحروب التي شنها المسلمون، أن “فالخلافات السياسية والعقائدية كانت تقود غالباً للقتل”.
ويضيف إنه قرر الابتعاد عن الالتزام الديني وأن يكون “لا دينياً” يعتبر أن ” الأساس في الإيمان هو العقل وكل ما يخالف المنطق والعقل لا يجب أن نتبناه”.