المعارضون بالصدفة

لقد دفعت انتفاضة الشعب السوري في سبيل حريته وكرامته وبناء نظام ديمقراطي بديل لنظام الاستبداد القائم المتحكم بالبلاد والعباد منذ نحو خمسة عقود كتلاً كبيرة من الشعب وفئات وأفراد كثيرين إلى الحقل السياسي ليتشكل منهم طيف واسع من ألوان المعارضة السورية يغلب عليه ما أسميه “المعارضة بالصدفة”.

فأغلب المنشقين عن الجيش السوري الرسمي كانوا حتى قبل انشقاقهم يرددون شعارات البعث في اجتماعاتهم الصباحية، هذا عداك عن أغلبية الشباب المشارك بالحراك الشعبي من تلامذة وطلاب المدارس والجامعات السورية الذين في أغلبيتهم الساحقة كانوا منتسبين إلى حزب البعث الحاكم أو إلى إحدى المنظمات المدنية التابعة له خرجوا عليه معارضين استمرار حكمه.

وهناك من عمل في أجهزة الدولة والحزب الحاكم وتبوأ مناصب مرموقة فيها، ولديه ملفات كبيرة من الارتكاب بحق الشعب والدولة، خرج يشتغل معارضة أيضاً في محاولة لتبييض سمعته.

وهناك فئة أخرى خرجت تشتغل معارضة بعد أن كانت حتى حين من المقربين والحلفاء الذين استغلوا علاقاتهم الوطيدة مع النظام ورجالاته من أجل تنمية ثرواتهم بصورة غير مشروعة.

وفئة أخرى ساهمت في الحراك الشعبي في بداية انطلاقه، ونتيجة لضغوط النظام واقتراب المخاطر منها فضلت الخروج من البلاد وطلب اللجوء السياسي والاستقرار في الخارج والعمل كمعارضة سياسية. وهناك فئة من المعارضين الذين يقيمون في الخارج لأسباب كثيرة (للعمل أو للعيش أو غيرها) أغلبها لا تتعلق بمواقف معادية للنظام، فجأة بدأت تشتغل معارضة وتتقدم الصفوف.

ولا يمكن تجاهل ألوان من المعارضة المسلحة التي تنتمي إلى تنظيمات إرهابية معروفة. لقد طغت المعارضة بالصدفة على تلك المعارضة التي لها تاريخ في العمل السياسي المعارض والتي تؤطرها أحزاب وتحالفات سياسية معروفة.

وبتكثيف أقول تتدرج المعارضة في سوريا من معارضة اللحظة أو الموقف حتى معارضة النهج، من معارضة بعض رموز النظام السابقين وتجار السلاح ومن يقدم خدماته لدول كثيرة ومنها العدو الصهيوني، حتى معارضة الثوار على الأرض، وانتهاء بالمعارضة التي لها تاريخ مثل أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي وبعض أحزاب اعلان دمشق والعديد من الأحزاب الكردية، وغيرها من الأحزاب التي عارضت النظام الحاكم منذ عقود وتعرضت للملاحقة والقمع والسجن وحتى محاولة التصفية.

إنه لظلم شديد، عداك عن أنه خطأ معرفي وسياسي كبير، أن يتم جمع جميع المعارضين للنظام السوري في الوقت الراهن، أو من يدعون ذلك، سواء كانوا من المعارضين بالصدفة أم من المعارضة التي لها تاريخ تحت مسمى واحد هو المعارضة السورية.

ومن حيث المبدأ يسهل التمييز بين فصائل المعارضة التي لها تاريخ، على الأقل لجهة مرجعياتها التنظيمية، وخطها السياسي، رغم ذلك يوجد بينها نوع من الاشتباك السياسي يصعب فكاكه.  لقد وصل بها الأمر إلى حد تخوين بعضها البعض، بل التعارك بالأيدي في غير مكان ومناسبة.

بطبيعة الحال سوف يقرر صندوق الاقتراع في المستقبل مصير كثير من هذه الأحزاب، مع ذلك لا يجوز في التحليل السياسي عدم التمييز بين حزب يغير نهجه وسياسته وتحالفاته بدوافع انتهازية، وحزب آخر يمارس نهجاً وطنياً بامتياز.

ويسهل التمييز أيضا فيما يخص “المعارضة بالصدفة” بين أولئك المعارضين الذي انشقوا عن السلطة لأسباب تتعلق بالسلطة ذاتها، بما فيها من مكاسب مادية ومعنوية، وهم اليوم من أكثر المعارضين في الخارج تطرفاً وأعلاهم صوتاً، وبين أولئك الذين كانوا على مدى خمسة عقود موضوعاً يمارس النظام عليهم استبداده ونهبه.

المشكلة الرئيسة التي تواجه مجموع المعارضين بالصدفة، وهم اليوم يغطون المشهد السياسي في سوريا، بغض النظر عن نشأتهم وعن طبيعتهم المعارضة، سواء أكانوا أفراداً أم تنظيمات حديثة تتمثل في ضعف خبرتهم السياسية، وبالتالي عدم التمييز بين الشعار التعبوي والرؤية السياسية والموقف السياسي.

عدم التمييز هذا جعلهم يغرقون في المطالب دون أي تفكير بكيفية تلبيتها.

والأمر الأكثر سوءاً بالنسبة للمعارضين بالصدفة هو سرعة انزلاقهم إلى ساحة الصراع التي أرادها النظام، أعني ساحة العنف. فكما نجح النظام بدفع الانتفاضة نحو العسكرة، فإنه نجح أيضا بدفع المعارضة خلال السنوات الأولى من عمر الانتفاضة نحو رفض أي “حوار” معه، وعندما قبلت بالحوار معه تحت مظلة الأمم المتحدة أو من خلال مسار سوتشي بقيت أسيرة أفكار وهمية بأن النظام يمكن أن يقبل أن يعطيها بالتفاوض ما لم تحصل عليه بقوة السلاح.

مشهد المعارضة السورية اليوم يتميز بالفرقة والاختلاف يخوّن بعضها بعضاً، وكأنهم جميعاً أرادوا، بقصد أو غير قصد، أن يقولوا للعالم بأنهم غير جاهزين ليكونوا البديل عن النظام، عداك عن أن يكونوا البديل الديمقراطي.

وكان ثمة رهان في حينه على مؤتمر المعارضة في القاهرة الذي شارك فيه جميع أطيافها، لكن ما إن انتهى المؤتمر، وقبل أن يجف الحبر الذي كتبت به الوثائق التي صدرت عنه، حتى عاد كل معارض إلى طبيعته، هذه هي للأسف بعض أمراض المعارضة السورية والتي تبدو أكثر حضوراً وبروزاً لدى ” المعارضين بالصدفة”.