الدعم واستحقاقات الإصلاح الاقتصادي الملحة

درجت العادة منذ حكومة الأسد الأب على تقديم الدعم الحكومي للمستهلكين للسلع الأساسية, الخبز والأرز والسكر والشاي والمحروقات والكهرباء, في إطار سياسة اقتصادية تقوم على هيمنة الدولة على الاقتصاد السوري بكافة قطاعاته حيث كان نصيب القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز 80% بينما نصيب القطاع الخاص لم يتجاوز أكثر من 20% تتمركز خاصة في  التجارة والحرف والزراعة.

وكانت الدولة تعتمد في تأمين إيراداتها من المصادر الريعية، البترول والقطن والفوسفات, ومن الضرائب والرسوم وبخاصة الضريبة المباشرة على الدخل والضرائب الجمركية, وتأمين احتياجاتها من العملات الأجنبية من تحويلات السوريين في الخارج والمساعدات الخليجية ومن تصدير البترول والقطن والفوسفات.

لقد حاولت تلك الحكومة بناء معادلة اقتصادية تقوم على ربط المجتمع, اقتصادياً، في جميع احتياجاته بالدولة من أجل السيطرة عليه وقيادته وفق أولوياتها السياسية بالدرجة الأولى وخدمة هذه الأولويات اقتصادياً, وليس وفق أوليات أو ضرورات واحتياجات تطوره.

 فمثلاً أفسدت الحكومة مواقع المسؤولية الاقتصادية والخدمية وغيرها ليتسنى لها محاسبة الجميع عند الضرورة التي تقتضيها مصلحتها, ومارست سياسات اقتصادية تصب في منفعتها وحدها (سياسة تعدد أسعار الصرف), ومارست وسائل اقتصادية لا تمارسها إلا العصابات من مثل قبض أموال بسعر صرف معين لاستيراد سيارات أو جرارات زراعية وعدم قيامها بالاستيراد بعد مدة طويلة يصبح فيها سعر الصرف عشرة أضعاف وتعيد الأموال لأصحابها وقد فقدت قيمتها الشرائية من دون أن تقدم حتى اعتذاراً لتبرئ جانبها أخلاقياً, عدا عن غضها النظر عن عمليات النصب والاحتيال التي قام بها جامعو الأموال في حق المدخرين لأن القطاع المصرفي الذي تملكه كله فاقد للأهلية الاستثمارية بسبب سياساتها الاقتصادية التي لا تخدم سوى مصالحها السياسية.

وفي لجة الاستثمار وتنافس الانتهازيين على المناصب الإدارية المغرية بالامتيازات المادية وغير المادية، شيدت مشاريع صناعية وزراعية وتجارية على عجل غير مبررة اقتصادياً بأموال دول الخليج التي تدفقت إلى سوريا بعد حرب تشرين لدعم صمودها انتهت بفشل ذريع وبالتالي حرمت الاقتصاد الوطني من إمكانات مالية كبيرة.

وفي الطرف الثاني للمعادلة دعم السلع الأساسية ودعم المصدرين بقطع تصدير يزيد عن سعر القطع في السوق بحوالي 50%, وواقعياً كان يتم تغطية هذا الدعم من الفرق بين السعرين الذي كانت الحكومة تستحوذ عليه من دون أي مبرر اقتصادي أو وازع أخلاقي لأنه يندرج ضمن سياسة تعدد أسعار الصرف التي اتبعتها من أجل الاستحواذ على الفروقات السعرية .

لقد شكل الدعم عند كل مأزق اقتصادي أو عجز مالي مكسر عصا على كاهل المواطنين تستخدمه الحكومة بطرق وبأساليب مختلف, فمثلاً خلال الضائقة الاقتصادية في ثمانينيات القرن الماضي تم تخفيض الدعم تدريجياً عبر تخفيض نوعية السلع المدعومة (الشاي والسكر والأرز) حتى حذف بعضها من قائمة الدعم (الشاي) وتقليل الكمية المدعومة من السكر والأرز للفرد, وتخفيض الدعم عن استهلاك الخبز والكهرباء والمحروقات برفع أسعارها عند كل زيادة لمرتبات العاملين في الدولة (زيادات تضخمية).

ومنذ منتصف سبعينات القرن الماضي مارست حكومة الأسد الأب سياسة اقتصادية تضخمية وكانت أسعار السلع المدعومة القاطرة التي تحمل هذه السياسة إلى جميع السلع والخدمات في السوق السورية التي تتميز على الدوام بسرعة الاستجابة لارتفاع الأسعار وابتلاع أية زيادات على هيكل الأجور والرواتب, كما شكلت المصدر الأساس لجميع عمليات التهريب من وإلى سوريا التي ألحقت شديد الضرر بالاقتصاد الوطني, وساهمت في الوقت ذاته بتحطيم هياكله وتوازناته حتى غدا أقرب إلى الاقتصاد المافيوي منه إلى اقتصاد دولة يعمل بمعايير وقواعد اقتصادية علمية.

وورثت حكومة الأسد الابن اقتصاداً بلا هوية, ريعي رخو وهش, ليس عنده قاعدة صلبة يرتكز عليها وعوضاً عن المبادرة لإصلاح اقتصادي جدي ينقذ الاقتصاد السوري من اختناقاته البنيوية، اتجه باتجاه خصخصة غير مدروسة تقوم على تفشيل القطاع العام بمقابل تفشيل القطاع الخاص في مجالات خدمية ريعية, وتركيز الثروة وهيمنة حفنة من الأشخاص المقربين للنظام على أكثر من 60% من الاقتصاد السوري, واستخدام السياسات الاقتصادية ذاتها عند الأزمات بالرغم من فشلها على المستوى الوطني من منظور التطور الاقتصادي.

وبطبيعة الحال فإن الإمعان في استخدام ما ثبت فشله في ظل ظروف وحوامل أخرى ستكون نتائجه وخيمة وأكثر ضرراً وفي المحصلة تعمل على تراكم الأخطاء والمشاكل بحيث يصبح علاجها بعيد المنال طالما بقيت البنى السياسية والاقتصادية ذاتها, وطالما لم تتغير الفلسفة الاقتصادية التي تتمحور أساساً على فكرة بقاء الذات وليس تطويرها.

في السياق ذاته اتبعت الحكومة سياسة تعدد أسعار الصرف للاستحواذ على الفروقات السعرية من جهة, وللهروب من استحقاقات تعويم الليرة واعتماد سعر صرف موحد يتحدد في السوق على أساس قوى العرض والطلب على العملات الأجنبية والليرة السورية سواء في السوق الداخلية أو في الأسواق المجاورة من جهة أخرى. واعتماد سياسة تخفيض الدعم على السلع الأساسية وصولاً إلى إلغائه في ظل سوق منفلتة من عقالها مع أجور مربوط عقالها على ساقيها.

ومنذ 20 عاماً قامت هذه الحكومة بإلغاء البطاقة التموينية للسلع الغذائية الأساسية وتعويمها في السوق وما بقي من سلع مدعومة (محروقات وكهرباء وخبز)، وهي تمارس حيالها سياسة تخصيص الدعم لمستحقيه من أجل تغطية نواياها بإلغاء الدعم كله بحجة التكلفة العالية للدعم الذي تبلغ اعتماداته بحسب مشروع موازنة 2022 حوالي 5529 مليار ليرة سورية وما نسبته 41% من إجمالي الموازنة. وتستحوذ الحصّة المخصّصة لدعم المحروقات على الجزء الأكبر من تلك الاعتمادات، حيث بلغت نسبتها حوالى 48.8%، تلتها اعتمادات دعم الدقيق التمويني (43.4%) . أما دعم الطاقة الكهربائية، والمقدر بحوالي 3652 مليار ليرة، فلم يتم إدراجه ضمن البند المذكور أعلاه لأسباب تتعلق بوجود تشابكات مالية كبيرة مع الجهات العامة.

وبحسبة بسيطة فإن تكلفة الدعم للمحروقات والكهرباء مبالغ بها لأنها تحمل المواطن دافع الفاتورة تكلفة استهلاك من لا يدفع الفاتورة من مؤسسات وأجهزة حكومية وحزبية ودور عبادة ومراكز ثقافية ومسؤولين ومتنفذين في الدولة وشبيحة وتجار محروقات وممنوعات, علاوة عن احتساب الهدر والفاقد في السلع المدعومة ضمن تكلفة الدعم، فمثلاً تقدر وزارة الكهرباء نسبة الفاقد أثناء عمليات توزيع الطاقة الكهربائية بحوالي 40%، جرّاء أسباب فنّية ترتبط بالأحوال السيئة للشبكة وللتجهيزات التقنية.

إن ما حصل قبل مدة وجيزة من تسريب وثيقة صادرة عن اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء، تضمنت حوالي 31 شريحة وُصفت بـ” بالميسورة ” ولا تستحق الدعم أثار موجة انتقادات وردود فعل شعبية غاضبة، عُبّر عنها بأشكال مختلفة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وحمل بعضها رسائل سياسية واجتماعية، للدلالة على خطورة ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للغالبية العظمى من السوريين بمن فيهم غالبية المصنفين من قبل الحكومة بالميسورين ممن يفترض أنهم طبقة متوسطة يحافظ وجودها على التوازن المجتمعي والاقتصادي, ولكن فات على الحكومة أن السياسة التضخمية المتبعة منذ حكومة الأسد الأب قد قضت على الطبقة المتوسطة ورثت حالها.

إن ما تفعله حكومة الأسد الابن اليوم من رفع الدعم والحساب على أساس التكلفة كان عليها أن تفعله قبل 20 عاماً عندما كان لديها احتياطي من العملات الأجنبية وكانت البلاد تنعم باستقرار اقتصادي نسبي ولكن ليس كتدبير وحيد إنما ضمن مجموعة تدابير متزامنة تستهدف إصلاح الاقتصاد السوري, أهمها : خصخصة المشروعات العامة الفاشلة وإعادة هيكلة المشروعات الناجحة على أسس استثمارية جديدة وإقرار ضريبة القيمة المضافة ومحاربة كل أنواع الفساد وبخاصة فساد السياسات والفساد الكبير وفساد المسؤولين والمتنفذين ومصادرة أموال الفساد.

 وكذلك معايرة الأجور والرواتب بالجهد المبذول سواء العضلي أو الذهني (ربط الأجر بالعمل) ومعايرتها بالإنتاجية (ربط الأجر بالإنتاج) ومعايرتها بالأسعار (ربط معدلات الأجور بمعدلات التضخم )، ومكافحة البطالة المقنعة في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية ، مع اعتماد الشفافية والحوكمة المؤسسية واعتماد شبكة قوانين وإجراءات تنظيمية ومؤسسية للاستثمار سواء الوطني أو العربي أو الأجنبي في المشاريع الإنتاجية والخدمية، وإعادة هيكلة الاقتصاد بإضفاء الطابع الإنتاجي عليه وترشيد الاستهلاك ووقف شتى أنواع الهدر ، واستخدام التكنولوجيا الحديثة ذات الإنتاجية العالية مع بناء علاقات اقتصادية دولية تقوم على قاعدة تبادل المنافع وليس الاستتباع لتحقيق مكاسب سياسية نفعية.

وياحبذا لو يتزامن الإصلاح الاقتصادي الشامل بإصلاح سياسي شامل ينتجه حوار وطني مؤسساتي لكان خير وبركة لمستقبل سوريا وفي الوقت ذاته كان جنبها كل تلك الكوارث التي شهدتها في السنوات العشر الماضية ولاتزال تعبر عن ذاتها بأبشع الصور والأشكال، وجَنب السوريين كل تلك السياسات الاقتصادية العبثية التي ليس لها هدف سوى جباية المال من جيوبهم ، ومَنَع التفريط البخس بإمكانات البلد ومواردها الاقتصادية وبخاصة مواردها البشرية الذكية والموهوبة (تهجير العقول) ومواردها البشرية التشغيلية التي تمتلك قدرات وخبرات مهنية كبيرة ومهمة (تهجير القدرات).

إن مقاربات الحكومة على مدار نصف قرن للمشكلات والأزمات الاقتصادية بذهنية تبسيطية آنية لا يحلها ولا يعالجها إنما يراكمها ويفاقمها ويضاعف من آثارها المدمرة للاقتصاد, وطالما بقيت هذه الذهنية فإن أي خطة إصلاح اقتصادي هي مجرد أضغاث أحلام تختلط بكوابيس حكومية تقض مضاجع المواطنين وترهبهم.