في الثاني والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وفي مقابلة مع محطة (سي إن إن)، انتقد الرئيس الأميركي جو بايدن السعودية لرفعها أسعار النفط وواضعاً إياها وروسيا في خانة واحدة فيما يتعلق بالموضوع. بخلاف عهد دونالد ترامب إذ كانت العلاقات جيدة بين واشنطن والرياض.
فمثلاً عندما طلب ترامب صيف العام 2018 من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان زيادة إنتاج النفط لتخفيض الأسعار كانت تلبية الرياض سريعة، وكان التوتر بين الولايات المتحدة والسعودية بادياً منذ دخول بايدن للبيت الأبيض، فتصريحه عنى أنه لن يتعامل مع ولي العهد السعودي بل مع الملك سلمان، وكذلك رفع واشنطن الحظر عن التعامل مع الحوثيين وصولاً إلى نشر تقرير الاستخبارات الأميركية عن مقتل خاشقجي والذي كان ترامب قد أمر بوضعه في الأدراج.
كان هذا التوتر بين البلدين في عهد بايدن بمثابة استعادة لتوتر علاقاتهما في عهد باراك أوباما ،والسبب في الحالتين واحد، وهو ايران، كما أن دفء العلاقات بينهما في عهد ترامب كان سببه انسحاب واشنطن في الثامن من أيار/مايو 2018 من اتفاق 2015 المتعلق بالملف النووي الإيراني، والذي عقده أوباما ويتجه الآن بايدن لإحيائه من خلال مفاوضات جديدة مع طهران.
ومنذ العام 2015 وقبل عقد الاتفاق النووي مع إيران في الرابع عشر من تموز/يوليو بدأ التغريد السعودي خارج السرب الأميركي، بدءاً من الحرب على الحوثيين في اليمن في السادس والعشرين من آذار/مارس، وهو لم يكن أوباما موافقاً عليه، إلى زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان لموسكو في الرابع عشر من حزيران/ يونيو(أصبح ولياً للعهد عام 2017)، إلى تعزيز العلاقات السعودية مع الصين، كما كان الانفتاح السعودي على تركيا عام2015 ليس فقط بسبب حاجة السعودية للإسلاميين اليمنيين من أجل مواجهة الحوثيين، بل أيضاً من أجل موازنة اقليمية مقابلة لاتفاق واشنطن مع طهران.
وفي هذا الصدد، أدى هذا التقارب السعودي-التركي إلى تدفق أسلحة غير مسبوق إلى المسلحين الإسلاميين السوريين، مما قاد في ربيع وصيف 2015 إلى سقوط محافظة ادلب من أيدي السلطة السورية وتلتها منطقة الغاب، وهو ما دفع واشنطن للموافقة على التدخل العسكري الروسي في سوريا منذ الثلاثين من أيلول/ سبتمبر2015 من أجل منع مسارات عسكرية غير مرغوبة أميركياً وروسياً في سوريا، كما أن هذا التقارب السعودي- التركي ظلل بمفاعيله مؤتمر الرياض للمعارضة السورية في كانون الأول/ ديسمبر عام 2015.
والآن في عام 2021، يختلف التغريد السعودي خارج السرب الأميركي عن عام 2015، أولاً من خلال بدء السعودية محادثات في بغداد مع الإيرانيين منذ نيسان/ أبريل الماضي، ويبدو أن الهدف منها هو إنشاء اتفاق إقليمي يقي الرياض من عواقب وتداعيات اتفاق محتمل بين واشنطن وطهران وبشكل لا يدع السعودية مكشوفة أمام الرياح المحتملة عن ما سينتج في فيينا، وبالتأكيد فإن الموضوع الرئيس عند السعوديين هو اليمن، وليس لبنان أو سوريا.
وتدرك الرياض أن مفتاح الباب الحوثي هو في طهران، وهي تريد عقد صفقة إيرانية-سعودية بشأن اليمن، ولا تريد اتفاقاً من وراء ظهرها بين الأميركان والإيرانيين حول اليمن، كما أن السعودية تعي أن مفتاح انهاء التوتر السني-الشيعي الذي تعاني منه طهران كثيراً وبخلاف ما يظن الكثيرون، هو في يدها، وليس في مكان آخر، وأن هذا المفتاح يمثل ورقة كبرى بيد الرياض في مفاوضات بغداد، وهو ما تعيه طهران ومن يواليها في العراق ولبنان وأماكن أخرى.
والمظهر الثاني لهذا التغريد السعودي هو رفع أسعار النفط بالتنسيق مع روسيا، وهو ما يعاني منه الغرب الأميركي-الأروروبي كثيراً.
المظهر الثالث هو الدعم السعودي للانقلاب العسكري السوداني في الخامس والعشرين من تشرين الأول\أكتوبر الماضي والذي كانت واشنطن ضده، وهو ما تشاركت القاهرة وأبوظبي مع السعودية في هذا الموضوع السوداني بالتغريد خارج السرب الأميركي. وهو ما نجده أيضاً في الموضوع الليبي حيث كانت مصر والامارات العربية المتحدة والسعودية ،مع فرنسا، على خط مختلف مع الأميركان ما جعلهم أقرب لروسيا في دعم اللواء خليفة حفتر منذ العام 2014، فيما كانت واشنطن أقرب للإسلاميين بالغرب الليبي والمدعومين من تركيا.
ومؤخراً، حصل حدث ملفت في هذا الاطار للتغريد خارج السرب الأميركي، وذلك أثناء زيارة الرئيس الفرنسي لدولة الإمارات، عندما عقدت صفقة بيع طائرات مقاتلة فرنسية من طراز رافال لأبو ظبي، بعد تلكؤ أميركي استغرق سنوات في بيع الامارات طائرات(إف 35) مع وضع شروط بعدم بيعها كاملة وشروط لأماكن استعمالها، وهي صفقة يمكن تسميتها بالانتقام الفرنسي من الأميركان بعد الصفعة التي تلقتها باريس قبل أشهر عند الغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا واستبدالها بغواصات أميركية تشتغل على الطاقة النووية، وكانت عربوناً أميركياً للأستراليين على دخولهم في حلف “أوكوس” ضد الصينيين.
لم تكتفِ الإمارات بذلك، بل بدأت بعيداً عن الأميركان انفتاحاً منفرداً على طهران وأنقرة ودمشق في الآونة الأخيرة، كما أن أبوظبي تدعم رئيس الوزراء الأثيوبي آبيي أحمد ضد خصومه من قومية التيغراي الذين تدعمهم واشنطن، وقامت الإمارات أيضاً بعدم الاستجابة للضغط الأميركي بإلغاء العقد الإماراتي مع شركة هواوي الصينية لتركيب شبكة اتصالات من الجيل الخامس.
هنا، تشكل أثيوبيا حالة خاصة في الابتعاد عن الأميركان خلال العامين الماضيين والاقتراب من الصين، مثلها مثل باكستان التي بعد خصومتها مع الأميركان عقب حدث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 وإزاحة واشنطن لنظام حركة طالبان الذي كان ربيباً للباكستانيين، فقد دخلت في علاقة تحالف وثيقة مع الصين وصلت لحدود تأجير مرفأ غوادر للصينيين، هذا التحالف الذي ليس بعيداً في ذهن إسلام آباد عن محاولة للموازنة الإقليمية مع الهند، الخصم القديم للصين، والتي أصبحت علاقاتها بالغة القوة خلال السنوات الأخيرة مع واشنطن.
بدورها تشكل تركيا حالة خاصة للتغريد خارج السرب الأميركي منذ اقترابها من موسكو بدءاً من صيف العام 2016.
هناك أسئلة عدة يجب أن تطرح الآن:هل يدل كل ما سبق على ضعف أصاب القطب الأميركي الأوحد للعالم في الفترة الأخيرة؟ وهل يقوم هذا الضعف، إن كان موجوداً، بتسريع وتقوية الاتجاه عند الدول المعنية لترتيب أمورها في ظل النزعة الانسحابية الأميركية من منطقة الشرق الأوسط التي ترافقت عند أوباما وتترافق الآن عند بايدن مع الاتجاه لعقد الاتفاق النووي مع طهران؟…أم أن تلك الترتيبات لها علاقة فقط بذلك الاتجاه الانسحابي ولا تفترض وجود حالة الضعف الأميركي؟..
التغريد المنفرد في الحالة الأولى يأتي من كون قائد السرب لم يعد متحكماً به. في الحالة الثانية يأتي هذا التغريد المنفرد من إعلان قائد السرب نيته في الذهاب إلى مكان آخر أكثر أهمية له، هو الشرق الأقصى وتركه لأفراد السرب الشرق الأوسطي وحيدين ما يدفع كلاً منهم للتصرف وفق مصالحه.