كشفت عملية داعش الأخيرة، في قرية “خدرجيجة” بقضاء مخمور، وبعد قليل من استهداف مماثل تعرّضت له قوّات البيشمركة بالقرب من منطقة كفرى التابعة لمحافظة ديالى، مدى جدّية التنظيم في البقاء على قيد الإرهاب، مع تغيّر ملحوظ في شكل عنفه، وتحوّله من عنف غدا أقل مشهدية واستعراضاً إلى شكل آخر يتوسّل أساليب حرب العصابات، وفي ذلك تقليد لأعمال المدارس الجهاديّة العنفيّة السابقة التي دشّنها تنظيم القاعدة في العراق، وبالتحديد تلك التي برع فيها أبو مصعب الزرقاوي، أو بكلمات أخرى: ثمّة عودة إلى الأصول، أصول الإرهاب إن جاز التعبير.
تكرار ما يحصل من أعمال إرهابية وبوتيرة متصاعدة يشي بضعفٍ أمنيّ بات يدمغ عمل الأجهزة الأمنيّة في عموم العراق، كما أن هجمات داعش أفضت إلى تبادل الأحزاب الكردستانية الاتهامات واعتماد لغة خشنة تعبّر بجلاء عن واقع الانقسام وحدّة الاستقطاب، ذلك أن المعضلة الأساسية تكمن في تعطّل جهود توحيد قوّات البيشمركة منذ العام 2006 وانعدام شكل القيادة المركزيّة وتفاقم التنافسيّة القائمة على الاستئثار بالقرار العسكري والتصوّرات اللوجستية المتعلّقة، وهي أمور تضعف الموقف الكردستاني في مواجهة الإرهاب، ويضاعف من ذلك ضعف التنسيق العسكري والأمني مع بغداد رغم توصّل الإقليم والحكومة الاتحادية إلى صيغة متأخرة لشن عمليات هجومية “وقائية” وبدعم من قوات التحالف الدولي وبالاتكاء على تقنياتها من طائرات مسيّرة وسواها، ولن تخفّف زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى قضاء مخمور من مشاعر الخوف التي بدأت تتنامى في المناطق الكردية التي شهدت هجمات إرهابية، ولاعتبارات تذكّر الكرد بالمواجهة السابقة مع داعش حين قاتل الكرد منفردين وتعذّر تقديم المساعدات الإقليمية والدولية لهم لفترة طويلة، ولأسباب بدت غير مفهومة وقتذاك.
ولعل مسألة التعامل مع خلايا داعش ونُويّاته المتحرّكة، والتي يبلغ عددها وفق تقديرات وزارة البيشمركة “ما بين 2000 و3000 مقاتل” مقسومين إلى خلايا نائمة داخل المدن والقصبات وأخرى عاملة بشكل متخفٍ، يتطلّب تجاوز الخلاف داخل الإقليم بين قوّتي البيشمركة، ويتطلّب تعاوناً جدّياً بين بغداد وكردستان، وأيضاً يتطّب توصلاً إلى تعاونٍ إقليمي يتعذّر تحققه إلى اللحظة بفعل مصالح الدول الإقليمية التي تتعارض، بالضرورة، مع مصلحة إقليم كردستان في الأمن والاستقرار، كما أن حرمان الكرد من التقنيّات والأسلحة المتطوّرة يضع داعش في وضعٍ مريح في المناطق النائية، لا سيما المناطق المعرّفة بأنّها متنازع عليها.
اللافت في موضوع تصاعد الهجمات أنّها جاءت بعيد انضمام مقاتلين من تنظيم “جند الله” لتنظيم داعش، وجند الله الذي عرف في فترات سابقة في سوريا بجماعة “أبو فاطمة التركي” أسّسه مقاتلون أذريون عام 2014 غربي حلب، وقد تدخل مسألة تناحر هذه الجماعة مع تنظيم “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) في الحسابات التي أفضت إلى إخراج بعضهم من سوريا إلى العراق، على اعتبارهم “مقاتلون أجانب”، وهذا الاندماج داخل جسد داعش التنظيمي ليس بالعمل العاديّ بقدر ما يعبّر عن رغبة لدى جهات ما في إحياء داعش ومدّه بنسغ الحياة المطلوب عبر تزويده بمقاتلين مخضرمين، إلى جانب إيجاد “تصريفة” للمقاتلين الأجانب ممن يشكّلون عقبة كأداء أمام تعويم هيئة تحرير الشام، وفي مطلق الأحوال يبدو أن الكلفة سيتحملّها الكرد، مدنيين ومقاتلين.
ولأنّه لا يمكن بحال من الأحوال التنبّؤ بنهاية داعش بشكل مبرم؛ فإنّ التنظيم تبعاً لمرحلة هزيمته الأولى والتي تجلّت بسقوط خلافته ومقتل خليفته، أعاد ضبط إرهابه مجدّداً، ولئن كان عنوان إرهابه الحالي التسبب في موجات نزوح كردية طفيفة وإرباك الدفاعات الكردية والمس بسمعة المقاتلين الكرد، فإن الغاية الأساسية قد تتجاوز هذه العناوين “المعنوية” إلى مسائل أشد تجريداً، كالعودة إلى إعلان الخلافة على الأرض.
ولأجل التعامل مع هجمات داعش الأخيرة وتحالفاته وتزوّده بدفقة جديدة من الإرهابيين الخطرين، قد يكون من المنطقيّ العودة إلى الأسلوب الذي اتبعته الأحزاب الكردستانية مطلع تفشيّ وتمدّد داعش، حين تجاوزت الأحزاب الكردستانية خلافاتها البينيّة، وتوقّفت عن الالتزام بالمحاذير الإقليمية التي تشترط بقاء القوى الكردستانية متخاصمة ومتحاجزة، ولعل الخطر الوجوديّ الذي استشعره الكرد آنذاك أفضى إلى تشكيل فضاء تعبوي جديد وحّد الكرد في مواجهة داعش، فقوّات البيشمركة كانت في كوباني، وكانت زيارة البارزاني لمقاتلي العمال الكردستاني في مخمور، وكان أن انتشرت قوّات الكريلا في كركوك وسنجار، فضلاً عن مشاركة بيشمركة كردستان إيران في القتال وسواها من مشاهد دلّلت على أهمية حالتي الاتحاد والتنسيق.
وعوضاً عن سياسة تبادل الاتهامات وإلقاء اللوم وتحميل المسؤوليات، جرياً على عادة كرديّة مزمنة، يمكن أن تَخلص القوى الكردستانية إلى تشكيل مجلس كردستاني موسّع لمكافحة الإرهاب يتجاوز الصغائر ويركّز على مهمّة تطويق داعش، ويعزّز من فرص تبادل الخبرات والمعلومات، وقد يلقى التفكير في هذا الاتجاه قبولاً من قوّات التحالف الدولي التي تمثّل أهم شركاء الكرد في الحرب على الإرهاب.