سياسة تخريب التعليم العالي

كان مؤسس النظام السوري الحالي منذ عام 1970 الرئيس السابق حافظ الأسد على دراية كاملة بضرورة السيطرة على التعليم العالي، إذ إن طلبة الجامعات عادة هم الأكثر حيوية ونشاطاً في المجال السياسي، وكانوا على الدوام المصدر الرئيس الذي يرفد الأحزاب السياسية بأعضائها ونشطائها.

وكانت الخطوة الأولى بعد تشكيل البعث للجبهة الوطنية التقدمية منع الأحزاب من النشاط السياسي في أوساط الطلبة، وقد نص على ذلك في ميثاقها.

وفي خطوة ثانية, كان لا بد من تبعيث العاملين في الجامعات السورية وخصوصا أعضاء الهيئة التدريسية, ولهذا الغرض صار شرطاً غير معلن أن يكون عضوا في حزب البعث, أو أن ينتسب إليه, لاحقا, من يتقدم للتعيين في الجامعة كعضو هيئة تدريسية.

ونظراً للتوسع السريع في إنشاء الجامعات كان يتم تجاهل شرط الانتساب إلى البعث أحيانا لمن يتقدم للتعيين في عضوية الهيئة التدريسية، ويتم قبول من هو عضو في أحزاب الجبهة، وأحيانا يتم تجاهل شرط الحزبية تحت ضغط الحاجة إلى أعضاء هيئة تدريس.

لكن في مجمل الأحوال كان الجميع, بعثيون وغير بعثيين, يخضعون للتدقيق الأمني من جميع فروع الأمن وهو تدقيق يتجاوز المتقدم إلى عائلته وأصدقائه.

عندما استلم رفعت الأسد مكتب التعليم العالي في القيادة القطرية حرص على كسب ولاء المتقدمين للتعيين في وظيفة معيد، ولذلك تم تجاوز كثير من شروط التعيين وتحديدا شرط الكفاءة( أي أن يكون حاصلا على شهادته الجامعية بمعدل جيد على الأقل).

وهو الشرط الذي تم تجاهله تماما عندما اتخذ وزير التعليم العالي في ذلك الحين وهيب طنوس قراراً فيما سمي “بالمشروع الوطني” لتعيين ألف معيد وإرسالهم إلى البلدان الاشتراكية السابقة للحصول على درجة الدكتوراه في الاختصاص المطلوب.

وأكثر من ذلك عمل “رفعت” على كسب ولاء من هم على رأس عملهم من أعضاء هيئة التدريس, وأنشأ لهذا الغرض جمعية خريجي الدراسات العليا كإطار تنظيمي توزّع الامتيازات على الموالين.

هذا وأدت عشر سنوات من عمر الأزمة الكارثية التي حلت بسوريا, ولا تزال مستمرة للأسف, إلى مغادرة أعداد كبيرة من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات السورية إلى الخارج, مما شكّل ضغطا كبيرا على أعضاء الهيئة التدريسية المتبقين, بحيث صار كل منهم يدرّس أكثر من نصابه، وأحيانا في مجالٍ غير اختصاصه.

ومع تحسّن شروط التعيين في وظيفة معيد في عهد الرئيس بشار الأسد بصدور مرسوم رئاسي يقضي بتعيين الحاصل على أعلى معدل نجاح في كل قسم معيدا فيه، إلا أن ذلك جاء متأخرا جدا بعد أن تدنى مستوى التعليم الجامعي كثيرا، ليس فقط بسبب ضعف المدرسين و تخلّف المناهج التدريسية، بل وانتشار الفساد في الجامعات السورية الذي صار وقحا في علانيته، دون أية مساءلة إدارية أو قانونية.

خلال سنوات الأزمة توقف إيفاد المعيدين إلى الخارج, إلا لمن كان لديه واسطة قوية، وتوقفت المؤتمرات العلمية المحلية, كما توقفت المشاركة في المؤتمرات العلمية الخارجية، وعملية التبادل العلمي مع الجامعات الأجنبية.

كان لذلك تأثير سلبي في خبرة العاملين العلميين وفي تحسين معارفهم العلمية, والأخطر من كل ذلك فقدان القيم الجامعية وحس المسؤولية عند كثير من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات السورية, بحيث صار بيع الأسئلة الامتحانية منتشرا، وكذلك الشهادات العليا في الماجستير والدكتوراه.

والجواب حاضر دائما لدى سؤال أي دكتور عن سلوكه هذا بأنه يريد أن يعيش، ويتابع أن راتبه قبل الأزمة كان نحو ألف دولار, إلا أنه لا يزيد اليوم عن خمسين دولار, وساعد في ذلك غياب الطلبة عن قاعات المحاضرات بسبب تكاليف مستلزمات الدراسة، ولماذا الحضور طالما أن بإمكانهم النجاح دون ذلك؟.

لقد كنت حاضرا شخصيا على طلب إحدى الأمهات من رئيس قسم في مكتبه إنجاح ابنها المسافر إلى الكويت، ولسان حالها يقول نحن “جاهزون لما تطلب”, وما أكثر الذين ينجحون في مشروعات تخرجهم دون أن يعدوا أي مشروع!, والتبرير الجاهز هو ظروف الأزمة القاسية التي يعيشها الطلبة!.

في إحدى جولات التفتيش للجهاز المركزي على بعض كليات جامعة تشرين قبل الأزمة اكتشف أن الأسئلة الامتحانية تباع في كلية الطب لطالب يسمونه “المتعهد” الذي يقوم بدوره ببيع الأسئلة إلى الطلبة الأخرين، وتم حينه فصل عدد من مدرسي الكلية.

وفي إحدى كليات الهندسة اكتشف أن بعض الطلبة قد تخرجوا وتعينوا في وظائف الدولة, وهم راسبون, المضحك المبكي أن وزيرة التعليم العالي في ذلك الحين تدخلت لإيقاف التفتيش خشية أن ينتقل ذلك إلى الإعلام فيساء إلى سمعة جامعاتنا دولياً!.

التعليم العالي في الجامعات الحكومية اليوم في أسوأ وضع يمكن تصوره, سواء من حيث المستوى العلمي لكثير من أعضاء هيئة التدريس، أو من حيث مشاركة الطلبة في العملية التعليمية، أو من حيث مستوى الفساد الذي ينخر في جميع مفاصل الجامعة.

يتكثف كل ذلك في مستوى الخريجين العلمي المتدني جداً، وعلى ما يبدو أن لا مخرج من هذه الحالة في المستقبل المنظور.