تدهور الوضع الاقتصادي وتداعياته على المسألة السورية

يتصدر الوضع الاقتصادي المتدهور وتردي المستوى المعيشي للمواطنين عناوين المرحلة الحالية من المسألة السورية, واللذين بدأت تتسارع وتائرهما منذ منتصف عام 2019 نتيجة تدهور قيمة الليرة السورية بعد توقف البنك المركزي عن التدخل المباشر وغير المباشر في دعم استقرار سعر صرفها, والتوجه إلى تعويمها في سوق الصرف, واعتماد سياسة تعدد أسعار الصرف للاستحواذ على الفروقات الكبيرة بينها من أجل إعادة بناء احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية لإعادة تدويره في سياق إعادة إنتاج السلطة ومركزية القرار الاقتصادي والسياسي.

و لا ننسى أن هذه السياسة قديمة جديدة تم ممارستها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي إثر خلو البنك المركزي من أي احتياطي بالعملات الأجنبية، ما أدى أيضاً إلى تدهور سعر صرف الليرة السورية تدريجياً من حوالي أربعة ليرات للدولار حتى بلغ 50 ليرة للدولار الأميركي الواحد.

وفي هذا السياق تواترت عدة متغيرات جعلت الليرة تتأرجح صعوداً وهبوطاً بين حدي السعر الموازي الذي يبلغ الآن 2500 ليرة والسعر السوقي الذي ليس له قرار, ما انعكس سلباً على الاقتصاد السوري وإمكاناته الإنتاجية, وعلى السوق السورية من حيث ندرة السلع وارتفاع أسعارها بشكل جنوني تتجاوز معادلاته سعر الصرف السوقي.

 ثم جاء حجز الأموال السورية في البنوك اللبنانية وقانون سيزر/ قيصر وجائحة كورونا وتوقف الخط الائتماني الإيراني واستمرار العمليات العسكرية في شمال غربي سوريا, وصمت العالم المريب حيال المسألة السورية, ووضعها على الرف ليتفاقم تدهور الوضع الاقتصادي وتصبح الحكومة قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس.

وكان من المفترض الاستجابة الإيجابية والفعالة من قبل الحكومة أو بنكها المركزي لتفسير حالة التدهور واتخاذ إجراءات إسعافية من أجل كبحها وطمأنة السوق وبث جرعة أمل لدى المواطنين الذين فقدوا ثقتهم بقدرة هذه السلطة على وقف حالة التدهور وهي أصلاً من افتعلها ومسؤولة عنها بغض النظر عما تسوقه من مبررات وحجج في أغلبها واهية وتدعو إلى السخرية.

 لكن الحكومة لجأت إلى اتباع سياسات اقتصادية ( نقدية ومالية ) قسرية تجبي لها الأموال لكنها تدمر الاقتصاد وتقضي على فرص تعافيه.

وما من شك في أن الحكومة, أية حكومة, هي المسؤول الأول والأخير عن الحالة الاقتصادية في بلدها, والحكومة السورية منذ عقود لا تتعامل مع اقتصاد البلد من منطلق علمي وله توازنات وحسابات وأهداف مجتمعية عامة, إنما تتعامل معه كحالة راهنة من منطلق مصلحي نفعي يخدم النظام وبيئته السياسية والمجتمعية.

لذلك لم تتخذ الحكومة حتى الآن أية إجراءات لوقف تدهور الليرة وتآكل واهتراء الاقتصاد الوطني وتردي المستوى المعيشي, بل على العكس من ذلك كل ما تقوم به يرتكز على “تشليح” المواطنين الذين صار أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر, وكل ما تبقى لديهم من أجل سد الرمق.

وهذا بحد ذاته نتيجة منطقية وطبيعية لأزمة سياسية أخلاقية ما زالت في البلاد منذ عقود, الأمر الذي يؤدي, بطبيعة الحال, إلى استمرار استنزاف الاقتصاد الوطني ومركزة الثروة والدخل وهدر الإمكانات والطاقات الوطنية وإضعاف الطلب الداخلي الفعال وإغراق السوق المحلية بالسلع الكمالية المستوردة.

إن أية حكومة انطلاقاً من مسؤولياتها القانونية والسياسية والأخلاقية مطالبة بتبني سياسات اقتصادية, مالية ونقدية, لإنقاذ اقتصاد بلدها من التدهور سواء في حالة الحرب أو حالة السلم, وإذا كانت عاجزة أو لا ترغب لدواعي خاصة فعليها الرحيل لأن وجودها, عندئذٍ, تكلفة وطنية لا طائل منها.

ومن بين الإجراءات الإسعافية التي يمكن اتخاذها: رفع سعر الفائدة على الودائع بالليرات السورية, وقبول الودائع بالعملات الأجنبية بأسعار فائدة مقبولة, ومنح الائتمان بكافة أنواعه للمشاريع الإنتاجية والإنفاق الاستهلاكي ودعم السلع الاستهلاكية الأساسية وإيصالها إلى مستحقيها من أجل تقوية الطلب الفعال لغالبية الشعب السوري, وتأمين مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي, والبدء في التفكير بمصادر الطاقة البديلة.

ولابدّ من مكافحة الفساد الإداري والمالي وخاصة فساد السياسات وفساد أصحاب الأمر والمتنفذين والفساد الكبير ومصادرة أموال الفساد, ومكافحة التهرب الضريبي وشتى ممارسات اقتصاد الظل من تهريب وتجارة ممنوعة للسلع وتجارة المخدرات والتعدي على الأملاك العامة والخاصة.

 كما يجب تخفيض الضرائب على ذوي الدخل المحدود وزيادتها على ذوي الدخول غير المحدودة, والكف عن التفريط بإمكانات الاقتصاد الوطني من موارد بشرية وطبيعية ورأسمالية.

إن الخروج من هذه الحالة الكارثية للاقتصاد الوطني مرتبط بتحريك عجلة الإنتاج, المرتبط بدوره عضوياً بإعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم, للمساهمة في إعادة الإعمار للأهمية القصوى للموارد البشرية السورية التي تتميز بالقدرة التشغيلية العالية المفيدة لعملية تعافي الاقتصاد السوري.

وهذا كله مرتبط في الوقت ذاته بالحل السياسي وفق القرار الأممي 2254 ومندرجاته, لأن إعادة الإعمار تحتاج إلى تمويلات ضخمة لا يقدر عليها حليفا الحكومة السورية روسيا وإيران لأنهما يعانيان من ارتباط اقتصادهما وموازنات دولتهما بالعائدات النفطية أو بالمصادر الطبيعية الريعية والتي بدورها ترتبط بالسوق العالمية وبما يرافقها من هزات وتأثيرات على مستوى الأسعار أو كميات الإنتاج.

وقد تعرض اقتصاد البلدين في السنوات الأخيرة إلى عقوبات اقتصادية أمريكية وأوروبية  شديدة الوطأة وإلى تدهور أسعار النفط بسبب حمى الإنتاج من داخل وخارج أوبك, وبالتالي تراجع قدراتهما الاقتصادية.

ولا تمتد آثار الاقتصاد الريعي لهذين البلدين إلى هشاشة البنى الاقتصادية فحسب إنما تطال البنى المجتمعية والبنى السياسية وتؤثر في تشكيل علاقات السلطة داخل جهاز الدولة, ورسم شكل وجوهر العلاقة بين النظام والمجتمع مما يجعل الوضع في البلدين شديد الشبه بالوضع السوري من حيث طبيعة وحجم المشكلات ومن ضمنها المشكلات الاقتصادية, عدا عن كونهما يتسابقان لتحصيل المكاسب الاقتصادية من خلال التهافت على سحب السلع الوطنية من السوق السورية واستثمار وشراء المؤسسات الوطنية والعقارات السورية بما يعزز حالة الانهيار الاقتصادي المتصاعد.

وإن ربط الدول الغنية مساهمتها بإعادة الإعمار في سوريا بمدى استجابة حكومة دمشق للقرار الأممي وللحلول السياسية, وعجز حليفيها عن تقديم يد العون والمساعدة الاقتصادية لها, يجعلان أي رهان على تدفقات نقدية أو سلعية روسية أو إيرانية لإنقاذ الوضع الاقتصادي من التدهور رهاناً خاسراً وسخيفاً يطيل عمر المسألة السورية, ويجعل إعادة الإعمار أضغاث أحلام.

 وفي الوقت ذاته إذا استمر الوضع الاقتصادي بالانهيار, ربما يقود إلى فوضى عارمة تدفع المجتمع الدولي إلى التخلي عن سوريا, وترك حلفاء الحكومة يتحملون عواقبها ويغرقون في وحولها.