مناهل ثابت.. امرأة من صنعاء

منحت السعودية الجنسية لعدد من العلماء والمبدعين، وكان من بينهم العالمة الرياضية اليمنية مناهل ثابت، وقد اخترت الحديث عنها كشخصية فريدة مستحقة لأشكال مختلفة من التكريم، حاصلة على الدكتوراه في كيمياء الكم وهي في الثامنة والعشرين, و حققت تفوقاً عظيماً في فروع المعرفة، وقد دونت في قاموس العباقرة لعام 2013, وهناك عدة جمعيات للعباقرة والمبدعين تسجل مناهل في عضويتها، ولكنني للأمانة لست مخولاً للحكم على أهمية هذه الجمعيات والقواميس, ولكن من المؤكد أن هذه العالمة حققت ما هو مفيد ومدهش حتى منحتها الدولة السعودية الجنسية مع مجموعة من العلماء المتفردين كل في اختصاصه.

وهناك تقريباً نوع من الاتفاق بين من نشر عن هذه المرأة المتميزة أنها مصابة بنوع من التوحد وبطءٍ في النطق, ولكنها قهرت محنتها واستطاعت أن تحقق النجاح تلو النجاح.

أكتب عن مناهل لأنني بالفعل أشعر بالإحباط الشديد من واقع المرأة المسلمة في اليمن وفي بلادي سوريا أيضاً, خاصة في مناطق الشمال السوري حيث يستمر فرض القيود الآسرة على المرأة في لباسها وردائها وخروجها ودخولها، وباتت المرأة تعامل على أنها محض كارثة ابتلانا بها الله، ولا ستر لها إلا الصهر أو القبر، وأن علينا أن نراقبها في الليل والنهار حتى نطمئن أنها لن تنحرف إلى خطيئة، ولن ينظر لها أحد نظرة إعجاب، وأن عطرها زنا، وزينتها إثم، وخروجها حرام، وأن الموت أهون من سفور المرأة الذي هو رأس الكبائر، مع أنه لم يذكر مرة واحدة في الكبائر في سند صحيح.

وحين تشاهد حفلات التكريم التي تقيمها الفصائل لبعض الطفلات الصغيرات المنقبات بالأسود بالكامل يخيل إليك أن المرأة لم تتقدم كثيراً من عصر الموؤودة التي سئلت بأي ذنب دفنت، ولا يزال خطباؤهم يطالبون النساء أن تكون تلك المرأة العفيفة الطهور التي لا تخرج من بيتها في العمر إلا مرتين, مرة من بيت الأهل إلى بيت الزوج, ومرة من بيت الزوج إلى القبر!

مناهل امرأة من اليمن، وهي تكشف عن ذلك الطوفان الهائل من مواهب اليمنيات المخبوء خلف سد سبأ، والذي ينتظر سيل العرم ليملأ العالم بالدهش والمفاجآت، والنجاح والألق، وهي ليست بدعاً في التاريخ ففي التاريخ نساء ثلاثة حكموا اليمن وحققوا فيها الازدهار والمجد، أولهن بلقيس وأسماء بنت شهاب وأروى الصليحية.

بلقيس هي الأشهر بالطبع، وكلنا يعرفها في البيان القرآني, لقد كانت امرأة أوتيت حسناً وجمالاً واختارها سليمان زوجة وحليلة، وسار بها على صرح ممرد من قوارير, فحسبته لجة وكشفت عن ساقيها، ونقلت فيما بعد هذه الحضارة الكريستالية حتى كان قصرها في اليمن من اثني عشر دوراً يرى من بداخله كل ما حوله من رياض ونضارة ولا يرى من بخارجه شيئاً مما بداخله، وعلى الرغم من أن قصص بلقيس محشوة بالأساطير والخرافة ولكن القدر المتفق عليه أنها عاشت في عصر سليمان في الألف الأول قبل الميلاد وأنها كانت امرأة تملكهم, وأوتيت من كل شيء, ولها عرش عظيم.

أما أسماء بنت شهاب فهي امرأة يمنية نادرة, إذ كانت زوجة للزعيم اليمني علي الصليحي وكانت تنهض معه بأمر الملك، وكان أحمد الصليحي مؤسس الدولة الصليحية في اليمن, فحكمها وما حولها وبلغ نفوذه مكة.

وكان الخليفة المستنصر الفاطمي قد عقد اتفاقاً مع الصليحيين ترك لهم فيه نفوذا على مكة المكرمة، وكان يخطب في مكة المكرمة لعلي الصليحي وزوجته أسماء بنت شهاب، وقد استمرت الخطبة لأسماء بعد رحيل زوجها علي الصليحي، وحين مات زوجها وخلفه ابنه أحمد، قامت باختيار أروى الصليحية زوجة له وقامت بإعدادها إعداد الملكات الحرائر.

كما كانت أسماء لا تستر وجهها وتطالب نساء اليمن بالتحرر والمشاركة الاجتماعية، وكان خطيب الحرم الشريف يذكرها في دعائه بصفة الإمامة الصالحة.

أما أروى الصليحية فهي زوجة أحمد بن علي الذي أصيب بالشلل في حرب عام 480 هـ, فنهضت من بعدها قائلة لئن أصيب أحمد بالشلل فإن اليمن لن تصاب بالشلل، وحين توفي قادت بنفسها حكم اليمن مع زوجها الثاني سبأ بن أحمد، وكانت تقود البلاد بجدارة.

ولما مات سبأ عام 492هـ انفردت بالحكم أربعين عاماً, يخطب لها في الحرم الشريف بمكة وفي المدينة النبوية وعلى سائر منابر اليمن, وأرسلت الدعاة إلى الهند, كما منحت الأقاليم في اليمن حكماً ذاتياً أوقف كل أشكال الحرب، وقادت حركة نسوية فريدة حين قررت الانتقال من صنعاء وبناء مدينة جبلة قرب أب، وهناك جمعت أكبر مكتبة في بلاد العرب وخصصت لها سبعمئة ناسخة ووراقة من النساء، ويقال إنه لم تبق في جبلة امرأة بلا عمل أيام أروى الصليحية.

ولعل الخمسين عاماً التي شهدت حكم أسماء بنت شهاب وأروى الصليحية هي الفترة الوحيدة التي شهد فيها اليمن سلاماً بلا حروب، حتى قال حكماء اليمن: لا يصلح اليمن إلا بحكم النساء: بلقيس وأسماء وأروى.

نعم إنني أدعو إلى جعل مناهل ثابت قدوة لنساء اليمن، ولنساء بلادي في سوريا وهن يكابدن صراعات لا تنتهي مع سيطرة الذكور، وما يفرضونه من شروط متعسفة قاسية في اللباس والمظهر والسفر والعمل والزينة، وهي شروط تمحق كل إرادة في المشاركة والإبداع خاصة في مجالات الرياضة والفن والسياحة والتفوق العلمي.

من المدهش أنك تجد في نساء السلف الأول من الصحابة نساء ثائرات كسرن قيود الصمت وتقدمن بشجاعة إلى مواقع القيادة والتأثير, فكانت خديجة تقود قوافل التجارة إلى الشام واليمن، ويعمل في مؤسستها عشرات التجار والمستخدمين، وكانت حتى قبل النبوة تقود حملات لتحرير الرقيق وتغيير نظام مكة الاجتماعي، وكانت عائشة تعلم الرجال فنون الحياة, وقد قادت بنفسها جيشاً هائلاً لتصحيح الواقع السياسي، وكانت ترى أن خروجها جهاد وثورة، أما سكينة بنت الحسين فقد جعلت دارها صالونا ثقافياً فريداً يجتمع فيه شعراء العرب وأدباؤهم, فيما أسس حسان بن ثابت مسرحاً فريداً أطلق موجة رائعة من المغنيات في المدينة.

 وفي المدينة الكريمة برز من المغنيات الفريدات حمامة وأرنب وجميلة وعزة الميلاء وعشرات من  المبدعات، فيما وقفت عائشة بنت طلحة تؤسس اتحاداً نسائياً قوياً كان يفرض حاجات النساء على المجتمع، وكانت أسماء بنت زيد بن السكن خطيبة النساء في المسجد النبوي وكان الرجال يصغون إليها قبل النساء وكان رسول الله يذكرها ويعجب بها، وكانت أم ورقة الأنصارية تؤم في الصلاة الرجال والنساء في قريتها التي زارها فيها الرسول الكريم وأقرها على ما هي عليه.

أما هجيمة الوصابية أم الدرداء الصغرى فكانت تعقد مجالس العلم في حرم المسجد الأموي يحضرها الرجال والنساء, وكان فيمن حضرها وشغف بها عبد الملك بن مروان, وعندما أرادها زوجة تمنعت عليه وأبت، وحين ذكرها بكلمة هازئة قالت ساخرة: إن نؤبّن بما ليس فينا فطالما مدحنا بما ليس منا!! وكانت تصلي في جامع بني أمية بين الرجال في الصف الأول.

ومع أن المسلمين منعوا بضراوة دخول النساء إلى حرم المساجد وأوجبوا الفصل بين الذكور والإناث ولكن المسجد الحرام في مكة لا يزال عصياً على الفقهاء ولا تزال المرأة والرجل يطوفان معاً ويصليان معاً ويتقدمان صوب الحجر الأسود معاً ويقومان بالسعي معاً، وعلى الرغم من قيود إدارة الحرم فلا يزال الاختلاط هو الحال الغالبة في هذا المسجد الأكثر قداسة في الإسلام.

ستبدو هذه المعلومات صادمة وسيتولى بعضهم الرد عليها على منطق أننا لا نفهم تفسيرها وتأويلها الحقيقي, وأنها وإن وردت في كتب السيرة المعتمدة لا يصح تطبيقها اليوم لفساد الزمان!

ومع أن الفقهاء لا ينكرون كل هذه الروايات والأخبار، ولكنهم يقولون ببساطة إنه زمن طهور ونحن في زمن دنس، وإن الاقتداء بهم لا يصح في هذا الزمان لفساد أهله، إنهم قدوة لنا في التشدد وليسوا قدوة في التسامح, وعلينا أن نبحث في السلف عن المتشددين فقط لنقتدي بهم أما أهل التسامح والمحبة والرحمة فليسوا أهلاً ليقتدي بهم أهل هذا الزمان!

 أكتب هذه القراءات المتعجلة لأقدم لنساء المسلمين هذه السيدة اليمنية الفريدة قدوة رائعة في العلم والمشاركة والتفوق، وهي مدرسة في الإرادة والعزيمة والصبر، أما حجابها وسفورها فهو أمر آخر تماماً، فالحجاب رداء زينة وكمال للمرأة في حياتها الاجتماعية، ولكنها تحتاج في عملها ورياضتها ومشاركتها العسكرية أنماطاً أخرى من اللباس لا تقف عند اختيارات المشايخ بل عند حاجات التفوق وشروط الإبداع.

مبارك مناهل ثابت النجاحات المتتالية، وأعتقد أنها ستكون قدوة للمجتمع السعودي واليمني في الإبداع والنجاح، وأتمنى أن تقدم سوريا نماذج من هذا النجاح خاصة في الشمال السوري الذي لا يزال يرى المرأة ضلعاً قاصراً لا قيام له إلا بوصاية الرجال.