في بلد كسوريا يفكر المرء ويحب ويحزن ويتحدث مع أهله بلغة وحين يكتب ويقرأ يستعمل لغة أخرى هي العربية الفصحى. الأمر شبه انفصام، لغتنا الأم تعتبر أمية فقيرة لا تملك قواعد ، ولكن حتى يومنا هذا لا توجد دولة واحدة يتحدث شعبها العربية الفصحى.
لا أتحدث عن السريان أو الكرد في سوريا والعراق ولا عن الأمازيغ الجزائريين بل أتحدث عن المكون العربي وكل من يتحدث العامية المتداولة، تلك اللغة المحلية الحية، الملونة بألوان الأماكن والطبيعة والناس الذين تتفاعل معهم.
مع هذا عندما نتحدث عن الثقافة نربطها فكرياً دون تردد باللغة العربية الفصحى، فوفق المفهوم العام السائد لا يمكن تداول الثقافة بالعامية. بالتالي لغتنا الأم وثقافتنا تعتبر بنظر الجميع ثقافة منقوصة، نحن لا نحترم ثقافتنا المحلية بالقدر الكافي، نعتبرها أقل شأنًا من تلك اللغة الوقورة العربية الفصحى.
هذه الازدواجية هي حتماً أحد مصادر أزمة الهوية التي يعيشها المواطن السوري والعربي عموماً، وهي كذلك ربما سبب عدم اهتمام الشعوب العربية بالقراءة التي هي حكر في العالم العربي على النخبة.
بينما الكتاب في أوروبا في متناول الجميع ومستهلك بكميات كبيرة من كافة فئات الشعب فلا حاجز لغوي بين القارئ والكاتب.
العربية الفصحى هي لغة حية كالإنجليزية والفرنسية، مع فارق بسيط أن الفرنسية والانجليزية وسائر اللغات تستعمل في البيت والشارع وتقرأ وتكتب بالبساطة ذاتها من قبل الجميع، وهذا ليس حال اللغة العربية.
الازدواجية هذه هي ما يميز سكان العالم العربي ويوحدهم.
أليس محزناً ألا يدرس أبناء مصر في المدارس الشعر المصري الذي غنته أم كلثوم بلهجتها ورتبه سيد درويش وأحمد فؤاد نجم ومبدعو أغاني عبد الحليم حافظ.
نكاد نظن حينما نزور العالم العربي أن المتنبي ما زال حياً يتجول بعقل عصره القديم لأن الماضي مقدس لا يترك مكاناً للحاضر ، ومن خلال احتقار اللغة المحلية التي تمثل الحاضر يتم احتقار المرء للواقع والحاضر.
وليس غريباً أن سيبويه لم يفكر حين وضع قواعد اللغة العربية الفصحى بلهجات الشعوب التي ستتبناها، فلم تكن العربية لغته الأم. ومنذ ذاك الحين لم يجرؤ أحد على اصدار كتاب عن قواعد لغته المحلية أو مجرد اعتبارها لغة.
سياسياً، ولد العالم العربي من تواجد دول وشعوب من مستخدمي اللغة العربية لغة القرآن الكريم. وسبقتها حركات تعريب لغوي بدأت مع الفتوحات الإسلامية، وهكذا غيرت شعوب عديدة لغتها الأصل أو لغاتها وتعربت.
لكنه في الواقع حصل شيء آخر، فحين تم التعريب ولدت في كل منطقة لغة جديدة تمزج بين اللغة العربية الفصحى واللغات المحلية القديمة، لكن وللأسف لم يعترف بها أحد حتى الآن.
العنصر المشترك الأهم بين كل الدول العربية الحالية هو القرار السياسي الاستراتيجي الذي اتخذته كل دولة والذي ينص على استعمال اللغة العربية الفصحى كلغة رسمية لكل دولة.
بالتالي الهوية السياسية العربية هي موجودة حقاً وتعتمد ثقافياً على العربية الفصحى، لكنها ما زالت قيد النضوج.
وبدايةً تمت محاربة التراث المحلي باسم القومية العربية، في سوريا مثلاً تم دثر التاريخ وإلغاء الكثير منه وهذا بهدف بناء الثقافة السياسية العربية الموحدة التي تشكلت على مراحل.
وساهمت تيارات أيديولوجية وليدة بعد الثورة العربية الكبرى وسقوط الحكم العثماني، كالبعث العربي، بنحت وتشكيل هاته الهوية الثقافية السياسية الجديدة نوعا ما، كما لعب الإعلام دوراً كبيراً وقتها في إنتاج الهوية الحديثة. ثم تشكلت تيارات فكرية وبنيت مواقف سياسية.
وفي عصر النهضة حين برز نجم جمال عبد الناصر كانت العروبة لا تتعارض مع اعتماد نمط غربي في الحياة. نلاحظ هذا في أفلام وأعلام تلك المرحلة.
قدم يوسف شاهين في أعماله حالة الثورة الاجتماعية على الموروث من التناقضات وعلى الجيل القديم، واستمر هذا النفس التقدمي من الخمسينيات حتى لحظة اندلاع الثورة الإيرانية أي لغاية سنوات السبعين من القرن الماضي حين صعدت التيارات الإسلامية السياسية.
وتزامنت الثورة الايرانية مع قرار أميركي استراتيجي ينص على دعم التيارات الإسلامية في العالم، وخصوصاً في أفغانستان لمواجهة الاتحاد السوفيتي والماركسية. وهنا ظهرت تدريجياً حاجة العودة للربط بين الهوية الإسلامية والهوية العربية .
وفي ستينيات القرن الماضي، ارتبطت العروبة بالتقدمية والأفكار الماركسية، وتزامن هذا ما يمكننا تسميته اليوم بالرأي العام العربي . هذا الرأي الذي حرك الشوارع في بلدان عديدة للتضامن مع قضايا سياسية وتبنيها كقضية تحرير الجزائر والقضية الفلسطينية.
ولمراحل طويلة، اتخذت العروبة وجهاً سوفييتياً لأبعد الحدود، وسعى المشروع القومي العربي مع السوفييت لإلغاء الهويات المحلية في الدول العربية. ففي المعسكر السوفيتي حينها لم يكن أحد معنياً بمسائل الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية، بالتالي كانت الأحزاب العربية التي ظهرت تحمل الرؤية ذاتها، رؤية الحزب الواحد الذي لا يسمح لغيره بالوجود.
واعتبر الشارع العربي آنذاك كل من جرب أن يفكر بطريقة تعادي الاتحاد السوفيتي خائناً وعميلاً للإمبريالية.
وهكذا تشكلت دول “الممانعة والصمود والتصدي” والتي ما زال منهجها الفكري لا يقبل النقاش، وما زال الكثير من مثقفي العالم العربي اليوم ينتمون لهذه المدرسة .
وكان مطلوباً من الدول الخليج العربي النفطية وعلى رأسهم السعودية التخلي عن مصالح شعوبها الاقتصادية وعن مصالحها في سبيل إرضاء الشارع “العربي السوفيتي”، هذا الرأي العام الذي كان يطالب بثورة بولشيفية على طريقته.
وكان القذافي وعبدالناصر وبومدين وحكام البعث الديكتاتوريين في سوريا وفي العراق يلبون، رغم عللهم، مطلب الشوارع ،كانوا كما يريدهم الشعب ونخبته.
كلهم كانوا يعبرون بخطاباتهم الجهورة عن شعور الشوارع العربية عموماً، أما سياساتهم المحلية فكانت منفصلة تماماً وبعيدة كل البعيد عن مصالح شعوب دولهم محلياً.
هكذا كان يريدهم الاتحاد السوفيتي. كل زعيم منهم يمارس القمع في دولته ويسمح بالفساد، تماماً كما كان الحال في الاتحاد السوفيتي. ولم يكن غريباً أن تفتح الحدود بين الدول أو أن يمنح شعب جار خيرات البلد وحتى مناصب الحكم .
في سوريا لم يستهجن أحد تعيين عراقي وزيراً في سوريا رغم أنه لا يحمل الجنسية السورية، حصل هذا في بداية مرحلة سيطرة البعث.
لم ينتقد أحد هذا لأن البعث العربي الاشتراكي يعني وحدة عربية وإلغاء حدود وهويات محلية، ولم تعِ القيادات مسؤولياتها في مواجهة التحديات المحلية وتطوير البلاد قبل التفكير في الذوبان بالآخر.
وحتى التحرر الاجتماعي الذي كانت تنادي به النخبة بقى حصراً على النخبة، أما ابناء الريف والطبقات الشعبية من كل الطوائف فظلوا تقليديين كما يروي بصدق المبدع الفرنسي السوري رياض سطوف في سلسلة روايته الكاريكاتورية بالفرنسية “عربي المستقبل” والتي يروي فيها طفولته في سبعينيات القرن الماضي في الريف السوري.
وكان والده اليساري القومي العربي الاشتراكي المتعلم في فرنسا والمتزوج من فرنسية، يختلف في عقليته وممارساته عن عائلته في الريف السوري حيث كان المجتمع بعيداً كل البعد عن التحرر.