جدلية الحرية والعدالة من منظور ماركسي حداثوي

يتجادل كثيرون في ربط مسؤولية فشل التجربة الشيوعية وما لف لفيفها من تجارب تدعي انتماءها للاشتراكية بين تحميلها لحاملها الاجتماعي ، الماركسيون الذين أشادوا اشتراكيات “عملانية” على مقاساتهم أو تحميلها لماركسية “تنظيرية” الميراث الفكري والفلسفي لكارل ماركس وفريدريك إنجلز ، وبين تبرئة الماركسيين والماركسية وتحميل المسؤولية لمؤامرة إمبريالية ما تركت وسيلة إلا واستخدمتها في سبيل هزيمة الشيوعية.

وفي خضم هذا الجدل المحموم يتساءل المرء ما الغرض من هذا الجدل؟ هل هو لإعادة إنتاج ماركسية مبتذلة، أم الهروب من استحقاقات تاريخية- معرفية، تُعد الماركسية الآن بأمس الحاجة إليها ، أم هو نقض للماركسية كونها تشكل تهديداً للبنيات الفكرية المقفلة وللنظم الليبرالية الجائحة.

إن كل هذه التيارات لا ينطلق من أرضية علمية، إنما كل واحد منها يضمر أهدافاً نفعية- آنوية تنأى بنفسها عن النقد العلمي السليم من زاوية نظر معرفية عملانية .

إن الماركسية، للخروج من هذا الجدل الملتبس، هي منهج علمي في التفكير والممارسة العملانية سواء ما يتعلق بالطبيعة أو بالمجتمع وعلاقة الإنسان بهما، أما نواتج تطبيق هذا المنهج فهي متغيرة حسب التغيرات الحادثة في الواقع وهذه مسؤولية الماركسيين بعد ماركس.

وإذا كان الجمود قد أصابها ربما في مقتل مؤقت فلأن الماركسويين فهموها كنظرية أو أيديولوجيا وابتعدوا عن منهجيتها في فهم وتفسير التغيرات في الظواهر، ولم يواكبوا التقدم العلمي- التقاني والنظريات الحديثة وخاصة في علم الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي والتقدم الهائل في وسائل الإنتاج المادي وإنتاج المعرفة، وخصوصاً المعرفة الرقمية مما لم يشهده ماركس وإنجلز أثناء حياتهما بالرغم من أن ماركسياتهما ليست يقينيات أبدية إنما كأي فكر أو نظرية تخضع لقوانين الديالكتيك ذاتها التي شكلت عصا الرحى للماركسية.

 كما تخضع للنقد الذي أبدع فيه ماركس في نقد الاقتصاد السياسي، وإلا تفقد الماركسية علميتها كون العلم متغيراً لانهائياً لا يهضم اليقينيات المطلقة والنظريات النهائية، وهذا ما أثبتته نسبية أنشتاين وعممه شك ديكارت وديالكتيك الوعي الهيغلي من قبل.

 وإن كان ثمة فلتات يقينية في ريبية ديكارت وديالكتيك هيغل، لكنها لا تفسد النظرة المتغيرة للظواهر، وهو ما كان يصر عليه ديالكتيك ماركس المادي على الدوام، وكذلك ومضات ونزعات الجدل في تاريخ الفلسفة من الفلسفة الإغريقية حتى العربية- الإسلامية القرنأوسطية .

إن تاريخ الفلسفة التنويرية لم يبدأ بماركس ولا ينتهي به، وفشلُ الماركسوية في الواقع العملي لا يحال إلى حواملها الاجتماعية فحسب، بل أيضاً تسأل عنه بعض نظريات ماركس التي تأسست على نموذج المركزية الأوروبية مثل الطبقات والصراع الطبقي في اللوحة الخماسية وديكتاتورية البروليتاريا والحتميات التاريخية وقفل التاريخ والنظر إلى الحرية نظرة رعوية ..وتعميمها كدروس مادية تاريخية تكمل المادية الديالكتيكية.

 عندئذ يصح القول أن الماركسية المعممة التي تمثل منهجاً علمياً هي المادية الديالكتيكية بينما المادية التاريخية لها ما لها وعليها ما عليها ومهمة نقدها وفق قوانين منهج الديالكتيك تقع على عاتق مفكري الماركسية الأكثر فهماً للماركسية على اعتبارها منهجاً علمياً لا مجرد نظريات أو أفكار يقينية محصنة من الخطأ أو التخلف عن متغيرات الواقع التقدمية ، ووعيها معرفياً في سيرورة تطور البشرية اللانهائية التغير والجدل .

وطالما تشكل العدالة قيمة مركزية للمنظومة القيمية والفكرية للماركسية، فإن هذا الفهم للماركسية هو من وجهة نظري رد حقيقي على ذلك الجدل ربما ينصفها معرفياً وتاريخياً،  ويعطيها في الوقت ذاته زخماً       عملانياً للتصدي لاستحقاقات تطوير نواتجها النظرية، بما يمكنها دائماً من الإجابة عن التساؤلات الملحة للواقع المتغير ، الذي لا يقبل الثابت ولا ينسجم كلية مع الحامل الاجتماعي لهذا الثابت.

وهنا يأتي دور المفكرين الماركسيين الحداثويين في إنقاذ الماركسية من براثن فترة الجمود الأيديولوجي ووضعها من جديد على سيرورة تطور الإنسانية التي لم تفارقها الليبرالية بسبب ما تمتلكه من ديناميات التغيير والتكيف ومسايرة العصر ، ولعل الحرية هي الوقود الذي يحرك هذه الديناميات ويوائمها .

يختصر شعار الليبرالية الأول “دعه يعمل دعه يمر” المفهوم الطبيعي للحرية .. فهل من عاقل يمكن أن يكون ضد هذا الشعار ؟ في زمن العولمة حيث التقدم الهائل في وسائل الانتقال والاتصال والتواصل التي أمنت ظروفاً مواتية وسرعة كبيرة لانتقال الأشخاص والأفكار والبضائع والخدمات والأموال والثقافات، وجعلت العالم أقرب ما يكون إلى بعضه البعض في ظل اقتصاد معرفي صار يغلب عليه الطابع العولمي.

استطاعت الحرية الليبرالية أن تنأى بنفسها عن أي تأطير أيديولوجي، ورفضت أن تتحول إلى عقيدة جامدة أو مجمدة، وبقيت على طول الخط، رغم كل ما يعتورها من عثرات وعقبات وارتدادات قيمة مركزية تتمحور حولها كل المنظومة القيمية الفكرية (التنظيرية والعملانية) لليبرالية.

 بينما في الماركسية سواء التنظيرية أو العملانية أو غيرها مما يسير في فلكها، العقيدة موجودة ، ولكن ليس كقيمة مركزية أو محورية.

فإن وجدت في إطار مفاهيمي معين كمفهوم “التحرر أو الاستقلال أو السيادة” فإنها تتساوى مع الأفكار الأخرى داخل المنظومة الأيديولوجية، أو تقل شأناً عنها، أو تكون هامشية بدرجة أو أخرى.

 ووجه الاختلاف بين الليبرالية والماركسية يكمن في الفرق بين الفردوية التي تقوم عليها الحرية الليبرالية والرعوية التي تستند إليها الحرية الماركسية، وتصبح العدالة شرطاً لازماً لمدى اقتراب الليبرالية من الماركسية، مثلما تكون الحرية شرطا كافياً لدنو الماركسية من الليبرالية، كون الحرية والعدالة قيمتين مركزيتين ومحوريتين. وعندها يمكن الجزم بأن أي فلسفة لا تقوم على ركيزتين ثابتتين الحرية والعدالة مصيرها الموت أو أرشيف الفلسفة في متحف تاريخ الفكر .

إن الحرية الليبرالية “غاية في ذاتها”، كما أن العدالة الماركسية “غاية في ذاتها ” أي ليست الحرية ولا العدالة وسيلتان يراد منهما عملياً تحقيق شيء آخر، عدا كونهما صارتا أكثر فأكثر حقوقاً مطلقة تغذي لدى الإنسان الشعور بإنسانيته، وتنمي لديه القدرة على أن يكون فاعلاً لا مفعولاً به.. ودول كثيرة حديثة أدركت هذه الجدلية، حرية/عدالة ، تتطور على أساسها .

الماركسية فلسفة إنسانية راقية، وطالما هي كذلك فإنها ليست نقيض الليبرالية لأن موازين العدالة لا ترتفع بدون الحرية، والتطور المجتمعي يتوقف على تطور الفردوية، وطالما الليبرالية فلسفة إنسانية راقية أيضاً فإنها ليست نقيض الماركسية لأن أعمدة الحرية لا ترتفع بدون العدالة والتطور المجتمعي يتوقف على تطور الرعوية غير المنتجة للاستبداد، إنما التي تنتج التدخل الإيجابي لمنع أي انحرافات عن الحرية والعدالة.

لا تنبت الماركسية في المجتمع الرعوي المنتج للاستبداد ولا تتطور, وما شهدناه من تجارب ماركسوية عملانية في القرن العشرين ومنعكساتها النظرية في منظوماتها السياسية، حولت الفلسفة الماركسية التي في جوهرها نقيض ديالكتيكي للاستبداد إلى أيديولوجيا رعوية تغذيه وتخصبه.

تتموضع الفلسفة الماركسية في سيرورة الفكر الإنساني عموماً والجدلي على وجه الخصوص في مستوى راق من الفلسفات الليبرالية, ولو قُرئت بصورة صحيحة لما وضعت في عداوة معها, بل ربما ساهمت في تطويرها في سياق العلاقة الجدلية الوطيدة بين الحرية والعدالة كقيمتين إنسانيتين لا ترقى إليهما قيمة .