في أثيوبيا (أو أثيوبية) لا يوجد أكثرية قومية، بل هي مجتمع أقليات قومية، وجدت في بوتقة الدولة الأثيوبية التي عملياً تشكلت وتبلورت منذ نهاية القرن التاسع عشر. حسب “روزنامة العالم 2020″، التي تصدر كل عشر سنوات في نيويورك، فإن المسيحيون في أثيوبيا يشكلون 59 بالمئة وأغلبيتهم من الأقباط ويتوزعون في قوميتي الأمهرا والتيغراي مع أقلية مسيحية كبيرة في قومية الأرومو بحوالي الخمس بينما المسلمون 34 بالمئة ويتوزعون في قوميات الأورومو والصومالية والعفار وأكثرية الفلاتيين بالجنوب وهناك ديانات محلية بالعدد الباقي. الدين ليس محركاً سياسياً في أثيوبيا بل القومية. أكبر القوميات هي الأورومو 34 بالمئة ثم الأمهرا 27 بالمئة والصوماليون 6 بالمئة والتيغراي 6 بالمئة والفلاتيون 2 بالمئة والعفار 2 بالمئة (الصفحة 774) مع قوميات وإثنيات أخرى أقل عدداً. تتوزع تلك القوميات في مناطق منفصلة، حيث الأورومو يمتدون من العاصمة أديس أبابا وحتى الحدود الكينية جنوباً فيما الأمهرا في شرق وشمال العاصمة والتيغري يحاذون الحدود الإريترية والسودانية فيما العفار عند حدود جيبوتي والصوماليون عند الحدود الصومالية في منطقة أوغادين. التمازج السكاني يوجد في العاصمة وكان أساساً بين الأرومو والأمهرا ثم جرى وجود سكاني للتيغراي في العاصمة في فترة 1991 – 2019 بحكم الآثار الاجتماعية لسيطرة التيغراي على مقاليد السلطة في تلك الفترة.
سيطر الأمهرا على السلطة في فترة الحكم الامبراطوري (حتى 1974) الذي قطعته السيطرة الإيطالية (1936-1941) حيث أعقب ذلك إعادة البريطانيين للامبراطور هيلاسيلاسي للسلطة بعد دحر الإيطاليين. أصبحت الأمهرية هي اللغة الرسمية وجرى قمع الحريات اللغوية والقومية حتى عام 1991. عندما أطاح العسكر الماركسيون (تنظيم مجلس الديرج، الذي ضم الضباط والجنود) بهيلاسيلاسي في 1974، استمرت سيطرة الأمهرا، بحكم أن التركيب الاجتماعي للفئة الجديدة الحاكمة كانت بغالبيتها من الأمهرا، ولم يختلف الماركسيون في قمع القوميات الأخرى عن هيلاسيلاسي، الذي واجه تمرد التيغري في الأربعينيات ثم الإريتريين منذ عام 1961، حيث قام الماركسي هيلامريام بقمع الصوماليين (1977-1978) والإريتريين والتيغراي في الثمانينيات في فترة ما أسمي بـ”الارهاب الأحمر”. لذلك كانت المعارضة المسلحة التي أطاحت بحكم هيلامريام في أيار 1991، وهو ما تزامن مع بوادر تفكك داعمه أي الاتحاد السوفياتي، منتظمة منذ 1988 في (الجبهة الديمقراطية الثورية) التي تألفت من جبهة تحرير شعب تيغراي والحزب الديمقراطي لشعب أورومو والحركة الديمقراطية لشعب اثيوبية الجنوبية وحزب رابع كان أضعفهم هو الحزب الديمقراطي لشعب الأمهرا. تحالفت (الجبهة الديمقراطية الثورية) مع الإريتريين في العمل المسلح وقد أعطتهم أديس أبابا الاستقلال في عام 1993.
استمر حكم (الجبهة الديمقراطية الثورية) من 1991 حتى عام 2019 عندما استبدلها رئيس الوزراء آبي أحمد بـ(حزب الازدهار) الذي ضم تلك المكونات الثلاث للجبهة ماعدا جبهة تحرير شعب تيغراي. منذ 1991 كانت جبهة تحرير شعب تيغراي هي الممسكة بمفاصل السلطة من رئاسة الوزراء (ميليس زيناوي) إلى الجيش والأجهزة الأمنية والمفاصل الأساسية في الجهاز الاداري، وكانت الجبهة الثورية واجهة لحكم التيغراي وتنظيمهم السياسي أي جبهة تحرير شعب تيغراي. في فترة زيناوي (توفي عام 2012) كان هناك مظلة دولية كبرى من الولايات المتحدة للدور الإثيوبي الاقليمي، سواء في أزمة جنوب السودان حتى انفصال 2011 حيث وضح النفوذ الأثيوبي في الدولة الجديدة أو في التدخل العسكري الأثيوبي في الصومال المضطرب في عام 2006. شهدت أثيوبيا في عهد زيناوي نمواً اقتصادياً واستقراراً سياسياً، وكانت من أكثر الدول نمواً اقتصادياً في القارة الأفريقية، وقد تطور التعليم بمختلف مراحله، ولكن كان هناك تفاوت نمو حيث استفادت المدن أكثر من الريف كما أن مناطق المدن الكبرى ومنطقة التيغراي كانت الأكثر استفادة اقتصادياً على حساب المناطق الأخرى. لذلك كانت المعارضة الأساسية لهيلا مريام ديسالان، وهو خلف زيناوي وهو من الفلاتيين في الجنوب ولكن سلطته كانت واجهة شكلية للتيغراي، من الأورومو والأمهرا وهو ما انعكس في مظاهرات واضطرابات اجتماعية، وعملياً فإن الأورومو والأمهرا (في الجبهة الديمقراطية الثورية) هم الذين أتوا بآبي أحمد (من أب مسلم من الأورومو وأم مسيحية من الأمهرا وهناك من يقول بأنها من الأورومو) لرئاسة الوزراء في نيسان\أبريل 2018 (بعد استقالة ديسالان)، وتحالفهما هو الذي قام بتصفية ونزع سيطرة التيغراي على الجيش والأمن والادارة في فترة 2018-2019.
اضطربت أثيوبيا في عام 2019 بحكم سقوط التيغراي من الحكم، ثم أشعل التيغراي أثيوبيا منذ عام 2020. بدأ الاضطراب مع عملية استبدال هيكلية سلطة بدأ بنائها في عام 1991 بكل ما ولده هذا من صراعات داخل البناء السلطوي. التوتر والغليان بدأ في النصف الأول من عام 2020 عندما بدأ أفراد السلطة من التيغراي من مسؤولين مدنيين وعسكريين وأمنيين بالنزوح من العاصمة إلى إقليم تيغراي ومعهم تجار وأصحاب محلات وموظفين بالإدارة. في تشرين الثاني\نوفمبر 2020 اشتعلت الحرب بين جبهة تحرير شعب تيغراي وسلطة رئيس الوزراء آبي أحمد الذي استعان بالقوات الاريترية من أجل احكام السيطرة على الإقليم. في حزيران/ يونيو 2021 استعادت جبهة تحرير تيغراي قوتها واستطاعت حتى خريف 2021 السيطرة على كامل الإقليم ومن ثم بدأت بالامتداد إلى إقليم أمهرا جنوباً وتوزع اتجاه قواتها باتجاه العاصمة أديس أبابا وباتجاه طريق جيبوتي- أديس أبابا الذي بأوتوستراده وسكته الحديد هو رئة أثيوبيا التي أصبحت بدون ساحل بعد استقلال اريتريا. يقف مع آبي أحمد الأمهريون وغالبية من الأورومو والعفار والصوماليون فيما يقف مع جبهة تحرير شعب تيغراي بعض القوى الأورومية التي لا تعادل الأوروميون الذين يقفون مع فريق السلطة. هناك توازن في القوى على الأرجح سيمنع أحد الطرفين من الانتصار، والغالب أن الوضع القادم سيكون في توزع طويل الزمن لمناطق السيطرة بين الطرفين المتنازعين أو تسوية للصراع عبر مشاركة في تركيبة جديدة للسلطة أوفي تفعيل دستور 1995 الذي يعطي الشعوب والقوميات في أثيوبية الفيدرالية حق تقرير المصير بما فيه حق الانفصال.
كتكثيف: حكم الأقلية هو حكم فئة سواء كانت هذه الفئة هي قومية أودين أو طائفة أو أبناء منطقة معينة. أيضاً يمكن أن يكون هناك حكم فئوي لفئة تمثل أكثرية قومية أو دينية أو طائفية تقوم بالانفراد بالسلطة أو تهيمن عليها. تجربة أثيوبيا تثبت بأن الحكم الفئوي قد شمل الامبراطور هيلاسيلاسي اليميني المرتبط بالكنيسة القبطية والماركسي منغستو هيلامريام وكذلك حليف الغرب الأميركي – الأوروبي ميليس زيناوي. هذا يعني بأن الحكم الفئوي لا يرتبط بالأيديولوجيات ولا بالفكر القديم أو الحديث بل له علاقة بالبنية المجتمعية للبلد حيث الحكم الفئوي هو انعكاس لمجتمع لم يصل بعد إلى وضعية الاندماج ضمن رابطة وطنية متينة ولم يتجاوز بعد وضعية اللااندماج. سقوط حكم الأقلية يولد اضطراباً كامناً، كما جرى بعد سقوط منغستو هيلامريام عام 1991، أو يولد اضطراباً مباشراً يشعل حريقاً في عموم البلد كما جرى منذ عام 2019 مع سقوط حكم جبهة تحرير شعب تيغراي. في الحالتين كان البديل للحكم الفئوي ليس حكماً وطنياً جامعاً بل فئوياً من التيغراي منذ عام 1991 ومن تحالف أورومي- أمهري منذ عام 2019.