في الوقت الراهن، وربّما لاحقاً، لا يتمتّع النظام فيما خصّ الحوار مع الترويكا الحاكمة في شمال شرقي سوريا، الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، بأدنى خيال سياسيّ، يأخذه إلى القبول بالشراكة على قاعدتين كان قد لخّصهما القائد العام لقسد، مظلوم كوباني، وهما الاعتراف بالإدارة الذاتية والإبقاء على قواتها المسلّحة كجزء من “المنظومة الدفاعية السورية”، وهذان المطلبان المبنيان على كل ما حصل في السنوات اللاحقة على 2011، وهما على درجة واقعيتهما، باتا جزءاً من الحل، لا من المشكلة السورية التي هي حاصل جمع سياسات النظام المجرّبة، وداخل بلد ممزّق وفاشل ومأزوم.
وعلى هدي تراجع حدّة التوقّعات التي تخلّلت عملية الانسحاب الأميركي من أفغانستان وما استتبعه من رغبة في تقاسم جلد الدب الأميركي قبل اصطياده، لا سيّما الهستيريا التركية التي ما برحت تتحيّن ساعة الانسحاب، وارتفاع معنويات نظام دمشق وانتظاره لحظة قبول الإدارة الذاتية بالشروط العدميّة التي يصرّ عليها أبداً، غير أنّ ما أفصحت عنه الأيام اللاحقة عن استمرار واشنطن على انتهاج سياسة “الغموض البنّاء” والقائم على عدم تحديد مواقيت للانسحاب، أفضى إلى مراجعة كل الأطراف المتحيّنة لتفاؤلها بقرب زوال الإدارة الذاتية، ما عنى في مكان ما، إمكانية الذهاب إلى سياسات أكثر توازناً على نحو ما ذهبت إليه موسكو من تعهد في رعاية الحوار بين دمشق والإدارة.
ولعل مسألة الحوار، أو لنقل التفاوض، لا يتوقّف على توكيدات قسد أو تأثير روسيا التي أكّد وزير خارجيتها لافروف في اللقاء الأخير الذي جمعه بالرئيسة المشتركة لمسد، إلهام أحمد، على دعم الحوار بين دمشق والإدارة، ذلك أنّ النظام لا يزال قادراً على الخوض في سياسات تسويف ومماطلة قد تؤرّق موسكو وتحدّ من مبادراتها، وقد سبق للروس أن عبّروا بالقول، وبما يشي بشيء من التهرّب أيضاً، بأن “دمشق تقبل كل ما تقدّمه لها موسكو عدا النصائح”، ولئن كانت الإشارات الوافدة من واشنطن بدت غير معترضة على توجّه الإدارة نحو موسكو طلباً للوساطة، هذا إن لم نقل أنّ المسؤولين الأميركيين يدعمون هذا التوجّه، فإن هذا التوجّه أو الانفتاح يستلزم بأن تنتهج موسكو سلوكاً آخر، غير ذلك التبريري الذي يتماشى مع تعنّت النظام، بل عبر ممارسة الضغط عليه، وإلّا فإن بقاء الأوضاع على ما هي عليه لن يؤرّق الولايات المتحدة ولا الإدارة الذاتية، طالما أن عنوان المرحلة هو الالتزام بالصبر الاستراتيجي، والحال أن اتباع هذه الفكرة (الصبر الاستراتيجي) بات تكتيكاً عامّاً ولم يعد يقتصر على دمشق وموسكو إنما بات يمتد ليشمل الولايات المتحدة وبطبيعة الحال ترويكا الحكم في شمال شرقي سوريا، وبحسبنا أن نراجع آخر ما قاله بريت ماكغورغ كبير مسؤولي الشرق الأوسط في البيت الأبيض يوم الأحد الفائت في مؤتمر المنامة إن “الولايات المتحدة في المنطقة ستبقى وستعزز تحالفاتها مع شركائها”.
من بين السياسات التي يعتمد عليها النظام فيما خصّ دفع الإدارة للتسليم للأقدار، هو التعويل على الضغوط والتهديدات التركية، وهو ما يعني أن كل ما تفكّر فيه دمشق هو انتظار أن تعلق الإدارة في شباكها حال شنّ أنقرة حرباً أخرى، وهذا التصوّر على درجة انتهازيته، لا يصلح لأن يعرّف بأنّه عمل سياسيّ، إنّما تصوّر مبني على الصدف والاحتمالات، لا على الفعل والحركة، وهو ما قد يحتّم علينا التساؤل على نحو معاكس كما لو قلنا: ماذا لو توقّفت آلة الحرب التركية عند هذا الحد، لظروف ذاتية أو موضوعية يفرضها الحضور الأميركي والروسي؟
من المؤكّد أن لدى الإدارة الذاتية وشطر كبير من الأحزاب الكردية الأخرى، بينها المجلس الوطني الكردي، تعويل على دور وتأثير روسي داخل سوريا، وهو ليس تعويلاً شعبوياً كذاك الذي قاله رئيس الائتلاف الأسبق، أحمد معاذ الخطيب، بأن “شمس سوريا تسطع من موسكو” وهي مقولة أقرب إلى ناتج استخارة أو رؤية صوفيّة، إنّما ما يمكن سماعه من مختلف الأصوات في شمال شرقي سوريا هو أن لروسيا دور محتمل في تحييد الصراع المحتمل بين الإدارة والنظام، وأن واحدة من الممكنات هو أن تساهم موسكو في نقل مشاريع السلام إلى مستويات مقبولة، وروسيا التي رغم قوّتها العسكرية المهولة كانت قد أجادت لعبة التنازلات في القفقاس وتحديداً في الشيشان، مطلع القرن، بعد أن استنتجت بأن الحرب وحدها لا تصلح لأن تكون طريق الاستقرار المستدام، وهذا الاستنتاج الروسي يفترق عن رؤية النظام الذي يرجّح فكرة الغلبة والحرب على التفاهم والتنازل الجزئي عن بعض الصلاحيات المطلقة.
عودة روسيا إلى هذا الفضاء يستوجب أن تجترح أشكالاً جديدة للحل، كالتي كانت قد طرحتها منذ عدّة أعوام كمشروع مسوّدة الدستور الروسية التي حملت بين موادها تصوّرات لحل القضيّة الكردية وأخرى عن اللامركزية، وسواها من مسائل غابت عن النقاش الروسي لاحقاً. لكن ذلك حدث قبل أن تتحوّل الرواية الرسمية للآلة الإعلامية الروسية عن أن الإدارة الذاتية تسعى إلى الانفصال، وأن الكرد معيّة الأميركان يسعون إلى إقامة دولة كردية، وسواها من اتهامات قلّصت من حدود التفاؤل الكردي بدور روسي واعد.
في وسع موسكو أن تتلاقى مع واشنطن فيما خصّ مستقبل شمال شرقي سوريا، هذا قد يكون المدخل الأوّلي لحل عديد المشكلات التي تعترض طريق موسكو في سوريا، كمسألة الحصار وقانون “قيصر” ومشاريع إعادة الإعمار وإنهاء الحرب، بيد أن ما هو ماثل أمام أنظارنا في هذه الأثناء هي يد الإدارة الذاتية الممدودة للمصافحة في الهواء، وأن على موسكو أن تجد اليد التي تقابلها، وهو ما يحتّمه دور الوسيط.