منذر خدام
إن المتابع لخطاب المعارضة السياسية، وخصوصاً تلك التي تهيمن عليها تركيا، من منظور متطلبات السياسة كعلم أولاً، وفن ثانياً، سوف يندهش كم هو غني بالسباب والتوصيفات البذيئة، وكم هو بالمقابل فقير بالمعرفة. يستطيع أياً كان أن يسب النظام ويصفه بأبشع الصفات، ويحمله كامل المسؤولية عما حل بسوريا وشعبها، فالنظام يستحق كل ذلك. لكن من منظار السياسة ليس لهذه التوصيفات أي فائدة، بل تلك الأسئلة المتعلقة بفهم طبيعته، والظروف الموضوعية والذاتية السائدة، وكيف يمكن تحقيق مطالب الشعب في ضوء ذلك الفهم.
من المعلوم أن ألف باء السياسة تعبير عن موازين القوى، وليس عن الرغبات والأمنيات. من هذا المنطلق الأسئلة السياسية الحقة التي كان ينبغي أن تشتغل عليها المعارضة هي تلك التي تستكشف طبيعة النظام، وبنيته الداخلية وعناصر قوته، والمصالح التي يعبر عنها، سواء في الداخل أم الخارج، وشبكة العلاقات التي نسجها بصورة مباشرة، أم بصورة موضوعية مع أطراف دولية عديدة بالعلاقة مع الجغرافيا، وما يؤديه من أدوار وغيرها من أسئلة كثيرة. ولا تقتصر الأسئلة على فهم طبيعة النظام فقط بل تتعداه إلى طبيعة خصمه السياسي، وهل لديه رؤية سياسية بديلة أفضل من رؤية النظام، وما هي عناصر قوته، وكيف هي علاقاته بالجمهور العام، وما هي المصالح التي يسعى إلى تحقيقها، وكيف هي علاقاته الداخلية والخارجية. أسئلة كثيرة هي الأخرى ينبغي أن تكون أجوبتها حاضرة لبناء السياسة والسلوك السياسي عليها.
قبل عام 2011 كان هناك بعض الفهم لطبيعة النظام لدى كثير من النخب السياسية والثقافية، طرحت في ضوئه رؤيتها السياسية للتغيير في سوريا فقالت بالتغيير “السلمي المتدرج والآمن”. لكن ما إن بدأت انتفاضة الشعب السوري، حتى تخلت عن رؤيتها السابقة لصالح خطاب شعبوي كارثي الشعب يريد”، وليس خافياً كيف كان يتم إنتاجه.
إن رغبات المعارضة بإسقاط النظام، جعلها تتجاهل أن النظام يمتلك عناصر قوة كثيرة وكبيرة وهو جاهز لاستخدامها، وقد استخدمها غير مكترث بحجم الدمار الذي تسببت به للبشر والحجر. رغبتهم ذاتها جعلتهم يتوهمون أن الخارج سوف يسارع إلى مساعدتهم في تحقيقها، دون أن يبحثوا في ممكنات ذلك، سواء من حيث وجود مصلحة كافية لدى هذا الخارج للقيام بذلك، أم من حيث ما يمكن أن يترتب على ذلك من مضاعفات وتوترات دولية.
تتكرر مأساة “العقل” السياسي المعارض مرة أخرى بالعلاقة مع التدخل العسكري الروسي في سوريا، فبدلاً من التساؤل حول أسبابه وأبعاده ونتائجه، وكيف ينبغي التعامل معه سياسياً، بل كيف يمكن الاستفادة منه لمصلحة الشعب السوري، بدأت حفلات من السباب والشتائم وإطلاق التوصيفات البذيئة الجاهزة. بالطبع يمكن سب الروس وغيرهم وتوصيف تدخلهم بأبشع الصفات، لكن في ميزان السياسة لا يفيد شيئاً، بل هو ضار. اليوم صار الدور الروسي حاسماً في سوريا، ومن الغباء السياسي عدم التعاطي معه لاستكشاف ما يمكن الاستفادة منه في مواجهة النظام، على الأقل لجهة الضغط عليه لتلبية بعض المطالب، مثلاً التعاطي بجدية مع مسار جنيف، او الحوار الجدي والمسؤول مع قوى الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا.
من النافل القول إن العلاقات السورية الروسية تختلف عن علاقة سوريا بالدول الغربية إذ لها تاريخ من “الصداقة”، ولذلك فإن تدخل روسيا العسكري المباشر في الأزمة السورية ينبغي فهمه في هذا السياق.
وثانياً؛ إن مصالح روسيا في سوريا هي مصالح حقيقية ولها أبعاد استراتيجية، وقد أقرت بها بعض الدول الغربية الفاعلة، وينبغي على المعارضة أن تعلم كيف يمكن مبادلتها بمصالح أخرى للشعب السوري.
وثالثاً؛ إن تنامي دور القوى “الإرهابية” في سوريا ما كان ليصل إلى ما وصل إليه لولا الخدمات المباشرة التي قدمها بعض من ادعى “صداقة” الشعب السوري، وخصوصاً تركيا، وباتت تشكل خطراً حقيقياً على مصالح دول عديدة، ومن بينها روسيا.
ورابعاً؛ كشف الداخل الروسي حجم مصالح تركيا في استمرار الصراع في سوريا، إذ ثمة معلومات تفيد بأنها كانت تقبض على كل رأس وقطعة سلاح، ورصاصة تسمح بإدخالها إلى سوريا. وأكثر من ذلك، وبحسب ما نقلت بعض وسائل الإعلام عن أردوغان قوله بأنه صار لتركيا “عملاء” من السوريين يدافعون عن مصالح تركيا في الداخل السوري وفي الخارج. وبالفعل فقد أرسلت مرتزقة منهم إلى ليبيا وإلى أذربيجان. رغم كل هذا الانكشاف للدور التركي في سوريا فلا يزال يراهن كثير من المعارضين السوريين عليه، هل ثمة بؤس لهذا العقل المعارض أكثر من ذلك.
اليوم أغلب المتدخلين الخارجيين في الشأن السوري يقولون بأن الحل في سوريا هو حل سياسي، مع ذلك يستمر العقل السياسي لبعض المعارضين بتغذية أوهام الحل العسكري، بل ويدعمون الخطط التركية لغزو بلادهم خصوصاً في شمال شرقي سوريا.
في الختام لا بد من قول كلمة للتاريخ أن تركيا على وجه الخصوص وأغلب المعارضة السورية الناشطة في الخارج، وخاصة تلك التي تشتغل تحت الرايات الإسلامية أو دعمتها كانت شريك للنظام بتدمير سوريا.