محمد سيد رصاص
في عام 1898 دعا إدوارد برنشتين إلى نبذ (الثورة) لصالح (الإصلاح) في إطار الحركة الماركسية العالمية، التي كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني على رأسها، وكان برنشتين من قادته ومنظريه الرئيسيين. عارضه كارل كاوتسكي وروزا لوكسمبورغ في ألمانية ومن روسيا عارضه لينين. لم يقد هذا الخلاف الفكري إلى انشقاق سياسي- تنظيمي سوى في فترة ما بعد ثورة أكتوبر 1917 عندما تبعت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي ظلت في (الأممية الثانية)، المؤسسة عام 1889، رأي برنشتين، فيما تأسست أحزاب شيوعية في ألمانية (1918) وفرنسا (1920) وإيطالية (1921)، وحصل هذا في بلدان عديدة أوروبية وأميركة اللاتينية، عبر انشقاقات عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ومن ثم لتنتظم تلك الأحزاب الشيوعية في (الأممية الثالثة) التي أسسها لينين عام 1919. خلال القرن العشرين لم نرَ إعادة اندماج تنظيمي بين التيارين الاشتراكي الديمقراطي والشيوعي ولا تلاقيات تحالفية سياسية سوى في فرنسا بين عامي 1972 و1984 وهو ما أوصل فرانسوا ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي، لقصر الإليزيه عام 1981، وفي تشيلي عندما كان الاشتراكيون والشيوعيون هم القوة التحالفية التي حملت سلفادور أليندي للسلطة بين عامي 1970 و1973. كان هذا التباعد السياسي يدل على عمق الخلاف الفكري بين التيارين على مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين، وهو ما منع الحزبين الاشتراكي الديمقراطي والشيوعي في ألمانية، وكانا يملكان قوة كبيرة كحزبين، من تشكيل سد سياسي أمام وصول هتلر للسلطة عام1933.
عند الأصولية الإسلامية السنية والشيعية نجد تلاقيات امتدت خلال مسار طويل، إذا بدأناه مع نواب صفوي عام 1954، وهو كان إرهاصاً سياسياً بالحركة الخمينية، وصولاً إلى عام 2021، حيث نجد تلاقيات على طول الخط في الفكر وفي السياسة بين (الإخوان المسلمون) و(الخمينية) التي تابعها علي الخامنئي منذ استلامه السلطة في إيران عام 1989 بعد وفاة الخميني. نجد هذه التلاقيات في البلدان التي يتجاور بها حزبان من التيارين، مثل (حزب الدعوة الإسلامية)، الذي قبل مع السيد محمد باقر الصدر عام 1979 بنظرية الخميني عن ولاية الفقيه، و(الحزب الإسلامي) في العراق وهذه حالة موجودة بينهما منذ الستينيات هناك حتى الوقت الراهن، وفي أفغانستان بين (الجمعية الإسلامية)، بقيادة برهان الدين رباني، و(حزب الوحدة الإسلامي) الشيعي، وفي لبنان بين (حزب الله) و(الجماعة الإسلامية). اليمن من خلال العلاقة المتوترة بين الحوثيين و(حزب التجمع اليمني للإصلاح) يمثل الآن استثناءاً لهذه الحالة. لا يمكن لديمومة سياسية من التلاقي تستغرق عقوداً طويلة من الزمن، وسط توتر تصادمي في الوسطين الطائفيين للمتلاقين الاثنين، أن تكون ناتجة فقط عن تلاقيات فكرية، بل يجب أن يكون هناك شيء أقوى وأبعد.
فكرة (الإسلام العام) التي هي بمثابة الجسر الفكري بين حسن البنا والخميني هي أكثر من تلاقي فكري بين طرفين بل هي فكر يجمعهما في منظومة فكرية واحدة ولو كانت متلونة عند كل منهما بتلونات سنية عند البنا وشيعية عند الخميني، وهي شبيهة بالتلونات الروسية في ماركسية لينين والصينية في ماركسية ماوتسي تونغ، وفي سيرة صاحب فكرة (الإسلام العام)، أي جمال الدين الأفغاني (1838-1897) وهو فارسي شيعي أخفى شيعيته وأصله الفارسي لما جاء لمصر في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر، نراه يقف ضد حكام بلاد فارس الشيعة ويراهن على السلطنة العثمانية السنية مع طرح السلطان عبدالحميد فكرة (الجامعة الإسلامية). هذه المنظومة الفكرية الواحدة أنتجت عند جماعة الإخوان المسلمين والخميني- الخامنئي رؤية واحدة للإسلام، ولماضي المسلمين وحاضرهم، وللغرب الأوروبي-الأميركي، وللشيوعية، وبرنامجاً إسلامياً للحل و”الصحوة”. يمكن تجسيد وتلمس هذه المنظومة الفكرية عند سيد قطب أكثر من غيره، لذلك رأينا كيف كانت كتاباته موضع قبول عند الطرفين، وقد انتصرت أفكاره عند جماعة الإخوان المسلمين مع انتخاب محمد بديع مرشداً عاماً للجماعة، ومحمود عزت نائباً له، في 16 يناير 2010، فيما يقول علي الخامنئي، في مذكراته المعنونة بـ”إن مع الصبر نصراً” والصادرة في العراق ولبنان في فبراير 2019 والناشر هو “مكتب حفظ ونشر آثار المرشد السيد علي الخامنئي”، عن ترجمته لكتب سيد قطب الكلمات التالية: “كنت متفاعلاً معه بشدة وترجمته بكل مشاعري وأحاسيسي، أنفعل ببعض العبارات، فينتصب لها شعر بدني” (ص 56).
يثبت وجود هذه المنظومة الفكرية الواحدة واقعة أن جماعة الإخوان المسلمين عندما طرحت فكرة تنصيب الخميني “خليفة للمسلمين” في عام 1979 لم يكن عندها أي كوابح فكرية- سياسية تمنعها أو تدفعها للتردد في هذا الطرح، ولا يمكن لفكرة بوزن تنصيب شيعي خليفة للمسلمين أن تكون ناتجة عند الجماعة عن مجرد مصلحة سياسية ظرفية أو قصيرة المدى.
أصل للقول، هنا، أن التلاقيات الفكرية لا تنتج طاقة كافية ذات ديمومة لهذا التلاقي السياسي بين الطرفين الممتد لفترة طويلة من الزمن، وغير المهتز في وسط عاصفة التوتر السني- الشيعي الذي يشبهه هنري كيسنجر بالخلاف البروتستانتي- الكاثوليكي الذي اهتزت القارة الأوروبية على وقعه لقرون من الزمن، بل تنتج هذه الطاقة عن وجود منظومة فكرية واحدة عند الطرفين.
هذا يعني أن المنظومة الفكرية هي التي تؤسس وتولد عمق ورسوخ التلاقي السياسي- التنظيمي وحتى إذا جرى خلاف سياسي ترجم في انشقاق تنظيمي – سياسي، مع عدم وجود خلاف فكري جذري، فإن الخلاف السياسي – التنظيمي لوحده لا يؤسس منظومة حزبية متماسكة، كما جرى في انشقاقات الحزب الشيوعي السوري في أعوام 1972 (المكتب السياسي) و1979 (مراد يوسف) و1986 (يوسف فيصل)، حيث لم تطرح الانشقاقات الثلاث منظومة ماركسية مختلفة فكرياً مع الماركسية السوفياتية وتجسيدها السوري ممثلاً في خالد بكداش بل كان الخلاف سياسي- تنظيمي عام 1972 يتمثل في مواضيع الاستقلالية السياسية- التنظيمية عن السوفيات ورسم الخط السياسي وفقاً للواقع العربي والسوري مع رفض تفرد خالد بكداش في العمل التنظيمي، بينما كان الخلاف تنظيمياً عام 1979، وتنظيمياً – سياسياً عام 1986 عندما اختلف يوسف فيصل مع خالد بكداش حول (البيريسترويكا) وهو ما انعكس في التنظيم. لم يكن الخلاف عميقاً في عام 1972 ليصل إلى خلاف فكري ماركسي مع الماركسية السوفياتية، كما كان خلاف غرامشي مع اللينينية- الستالينية عندما رفض اعتبار الماركسية علماً وأصر على أنها فلسفة ومنهج معرفي يتفاعل مع مكان وزمان معينين لتنتج رؤية وخطاً سياسياً لحزب معين، كما رفض مصطلح الماركسية-اللينينية الذي يعتبر لينين مكافئاً لماركس وليس مطبقاً روسياً للماركسية وأن الماركسية- اللينينية هي صالحة كـ”علم مكتمل” لكل زمان ومكان. لذلك رأينا حركة الرجوع إلى جناح تنظيم خالد بكداش من (المكتب السياسي) مع الثلاثي دانيال نعمة- ظهير عبد الصمد- إبراهيم بكري في عام1973 وإلى جناح يوسف فيصل عام 1987 من قبل يوسف نمر كما أن مراد يوسف الذي تركز خلافه التنظيمي عام 1979 مع الأمين العام المساعد يوسف فيصل قد اتحد عام 1991 مع تنظيم الأخير.