أصدرت محكمة مصرية حكماً بالسجن خمس سنوات ضد الكاتب المصري أحمد عبده ماهر تحت عنوان ازدراء الأديان، وذلك بسبب إنتاجه الفكري الذي كرسه لنقد التراث الإسلامي، على الرغم من أن الكاتب المصري ينطلق بوضوح وصراحة من الدفاع عن الإسلام والرسول، ضد ما يعتبره تشويهاً متعمداً لشخصية الرسول الكريم والرسالة.
وأود أن أقول أولاً إنني غير معجب بكتابات أحمد عبده ماهر، ولا أعتبرها إيجابية ولا بناءة، وهي تبالغ في تضخيم الفتوى الجاهلة وتعيد تصديرها وترويجها وتعتبرها موجهة وموحية، ولا تلقي بالاً لاختلاف الزمان والمكان والبيئات، وكذلك لجهود النقد العلمي التي بذلها فقهاء محترمون لطي هذه الفتاوى وتحييدها من دائرة التطبيق، كما أن الخطأ الأكبر في هذه الدراسات أنها لا تعتبر الفقهاء والرواة مجرد مخطئين أو جاهلين بل تعتبرهم أشراراً ومتآمرين، وتمضي بعيداً في تحليل المؤامرة الكونية العميقة التي تورط فيها البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وكثير من الصحابة، وهو أمر لا يمكن قبوله إلا بقدر كبير من سوء الظنون والريب.
ولكن موقفي من أفكاره لا يعني موافقتي على محاكمته، فالقضاء جهاز مادي ولا يمكنه محاكمة الفكر، ولأن قانون الفكر لا يشبه في شيء قانون الحق، فالحقوق لها مقاطع وحدود والفكر له مسارب وشقوق، وما يتناهى لا يضبط ما لا يتناهى وهي قاعدة عقلية يفهمها الحقوقي اليوناني والروماني والبيزنطي والأوروبي ولا يعترض عليها فقيه بصير ولا حقوقي متين.
ومن جانب آخر فإن أحمد عبده ماهر لم يتناول المقدس الإسلامي الذي هو شخص الرسول الكريم بل تناول جهود الفقهاء ولم يقل أحد إن هؤلاء معصومون أو مقدسون لا يحل المساس بهم، وهو ينطلق من قاعدة الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
ولكن ذهاب المحكمة إلى مقاومة هذا التفكير النقدي لن يخدم الناس في شيء بل سيكرس الريبة بأحكام الشريعة، فالقمع سلاح من لا يملك حجة ولا برهاناً، وقد نهى الله تعالى رسوله الكريم عن العنف ضد المختلفين، وكرر في القرآن الكريم قوله: فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر، وقال تعالى: وما أرسلناك عليهم حفيظا وما أرسلناك عليهم وكيلا، وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد، ويتكرر الأمر في آيات كثيرة، وحتى حين طلب النبي الكريم المعجزات الماحقة لإقامة البرهان والحجة كان الجواب بأن الإيمان يكون بالحوار ولا يكون بالقمع ولا بالإكراه، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ إن نشأ ننزل عليهم آية من السماء فظلت أعناقهم لها خاضعين، ويكرر القرآن مرة بعد مرة أن سبيل مواجهة الفكر هو فقط الفكر والبرهان، وليس القوة والسيف ولا حتى خرق القوانين الطبيعية بالقوة السماوية، ويشير القرآن الكريم إلى أن النبي طلب معجزات سماوية ليقيم الحجة والبرهان على المخالفين ويمنع تأثيرهم على الناس فنزلت في ذلك سورة كاملة هي سورة الشعراء تعدد تاريخ الأنبياء واحداً واحداً وأنهم جاؤوا بالفعل بمعجزات ماحقة نصرت المؤمنين وأهلكت الجاحدين، ولكن لم يتغير شيء فقد بقي المؤمن والجاحد جميعاً وكلما ذكرت رواية عن معجزة ماحقة أكدت الآية أن المعجزة لم تنفع شيئاً، وكررت الآية ثمانية مرات قاعدة من ذهب بلفظ مكرر: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) وأشارت بوضوح أن السماء لن تتدخل لتغيير أفكار الناس، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
والآيات كثيرة جداً في أن رسالة النبي نفسه لا تتعدى النصيحة والتذكير، وأنه حتى في موقع النبوة الساطع لا يملك الحق في قمع الفكر المخالف، لا بمحاكم الأرض ولا بسطوة السماء بل بالحجة والبرهان والحوار فقط، وأن القاعدة الذهبية للبرهان والإقناع في الدين هي قاعدة الحوار، ولا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، وأن من شأن الفكر أن يأكل بعضه بعضاً، وأن قانون الله في ذلك: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
لا يمكن للمحاكم والسجون أن توقف صوت التنوير، ولم تستطع ذلك محاكم التفتيش التي أطلقتها أوروبا ضد المفكرين الأحرار وتبناها بشكل مباشر الملوك والأباطرة والبابوات، ووفروا لها الغطاء المادي والقانوني والسياسي الماحق، ونصبوا المشانق والمحارق والمقاصل، وعلموا النساء الزغردة حين تهوي الرقاب على المقصلة انتصاراً للكنيسة والرب، ووفروا للغوغاء فرص المشاركة في تعذيب المفكرين وهواية تعذيبهم على الصليب ورشهم بالزيت على المحرقة، واعتبار ذلك عملاً أخلاقياً لاهوتياً ووفاء نبذله ليرضى الرب، ولكن ذلك كله لم يوقف صوت التنوير وظهر فلاسفة التنوير على رغم توحش الكهنوت، ووصلت رسالتهم للناس وتبدلت أوروبا رأساً على عقب، وقامت بمواجهة تغول الكنيسة والبابا الذي كان يحكم أوروبا ويقود الحروب ويتوج الملوك ويحاكمهم ويسجنهم ويرسم خرائط العالم من روسيا إلى الأرجنتين، وفي النهاية فقد حولته اتفاقية 1923م إلى كاهن يدير قرية لا تتجاوز نصف كيلو متر مربع، ولا يتدخل بأي شأن قضائي أو سياسي.
ورغم قسوة التحولات فإنني أعتقد أن هذا التطور كان لمصلحة الكنيسة في النهاية لأنها حددت رسالتها في الإيمان والأخلاق والرحمة بعيداً عن صخب السياسة والحروب الصليبية المدمرة.
يجب أن تتوقف ممارسات القضاء المتغول على الحريات، ويجب أن يكون منع ازدراء الأديان مقصوراً على المقدس في ذات الله ورسوله وليس في شأن النقد التاريخي الموضوعي الذي سيستمر ولن يستطيع أحد أن يحول وجه التاريخ.
المخاوف نفسها تراودني وأنا أقرا التوجه الجديد للنظام السوري في مواجهة خصومه الفكريين عبر إلغاء منصب المفتي الذي كان منصباً رمزياً موحياً وتحويله إلى مجلس فقهي حكومي يقول عن نفسه من البداية كما في صحيفة الثورة 20/11/2019 إنه قادم ليسحق “فكر أعداء الأمة من الصهاينة والمتطرفين والتكفيريين وأتباع الإسلام السياسي وإخوان الشياطين والوهابية…. وكذلك الذين يعترضون على صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان” وهذا التصريح يضعه مباشرة في سياق محاكم التفتيش البائدة، التي تظهر من جديد عبر محاكمات المفكرين الأحرار، ولا أكتم قلقي وحزني أن يمضي هذا المجلس الجديد في سوريا بتكرار ما قام به القضاء المصري في المحاكمة الأخيرة، وأن يبدأ بإعداد اللوائح السوداء ضد الهراطقة والمخالفين، والبحث عن السبل المناسبة لمحاكمتهم ومطاردتهم تحت عنوان الدفاع عن الدين، وأن ينشأ في سوريا إلى جانب محكمة الإرهاب ومحكمة أمن الدولة محكمة أمن الدين، وأن تتوازع المحاكم الثلاث القوائم السوداء ضد كل معارض دفاعاً عن بيضة الدين.