“رجل الخبز”.. في طابور بريف دمشق مسن تنتظره ثلاث عائلات

دمشق- نورث برس

الوقوف في طابور الفرن يعادل وظيفة في سوريا، مدة وأهمية وجهداً، هذا ما يعتقده محمد العبد الله (66 عاماً)، النازح من ريف حلب والذي يعيش في صحنايا جنوب غرب دمشق ، بعد أن بات دوره في الحياة هو الحصول على حاجة ثلاثة عائلات من الخبز.

 يقول الموظف المتقاعد الذي يكنى بـ”أبو سالم” إن أحاديث السوريين في الطوابير عن الأزمات باتت مملة مع غياب الحلول وفي ظل القرارت الحكومية التي يصفها بالغبية.

“إنها تزيد قهري وتعبي يوماً بعد آخر، تتمحور كلها حول الجوع والفقر والفقد والغربة والشتات والهجرة”.

ويعيش 90 بالمائة من السوريين تحت خط الفقر، بحسب تقديرات للأمم المتحدة التي تحذر من عودة اللاجئين في أوضاع متدهورة وغير آمنة في البلاد وعاصمتها.

لكن هناك من لم يغادر البلاد أصلاً، سواء من اعتبر نفسه عالقاً فيها مع مخاطر وانسداد طرق اللجوء، أم من ينوي الاستمرار في البقاء فيها.

وبعد عقد من الحرب، لم تبق مخاطر الموت في القصف والاعتقال والطرد من المنازل وحدها هموماً، فالتدهور المعيشي وأزماته وآلام الفقدان أوصلت “أبو سالم” وكثيرين مثله لحال لم يتصوروها يوماً.

“الخبز جعل الحياة قاتمة”

يعيش “أبو سالم” مع زوجته وابنتيه، الطالبة الجامعية فاطمة، وسعاد التي فقد زوجها حياته في الحرب بعد ثلاثة أشهر من زواجهما.

ويقضي معظم أوقاته خارج المنزل في الطابور أمام الفرن للحصول على الغذاء الأساسي للمائدة في بلاده.

ثلاثة كيلومترات للوصول من المنزل إلى الفرن، تلك الطريق التي يقول رب العائلة إنه حفظ حجارتها عن ظهر قلب.

ومنذ سنوات قليلة، تقاعد الموظف في وزارة النقل، يقول إن راتبه أيضاً كحياته الآن يذهب كله للخبز.

“الخبز جعل الحياة قاتمة، حتى ذكرياتي عن الخبز والتنور وطفولتي في الريف أصبحت مشوشة”.

وقد يتمكن أحياناً من شراء الصمون الذي لا يحب طعمه لأحفاده، أو الخبز السياحي في مناسبات وأيام أخرى قليلة.

وفقدت العائلة منزلاً وأرضاً زراعية في بلدتها “رتيان” بريف حلب، وتعتمد اليوم على ما يرسله ابنها المهاجر الذي يعمل في الكويت وسلة مساعدات إغاثية أصبحت فترات وصولها تتباعد يوماً بعد آخر، على حد قول “أبو سالم”.

ابن معتقل وآخر مهاجر

ولم ير الرجل ابنه البكر سالم منذ صيف العام 2017، حين حضرت زوجته ليلاً وهي تصرخ “اعتقلوه”.

“بحثتُ عنه في كل الأفرع الأمنية التي وصلت لها، لم أترك ضابطاً أو شرطياً أو رجل أمن إلا ودفعت له ورجوته لأعرف أين ابني، لكن لا فائدة”.

وتعيش في منزل الابن زوجته وولداه اللذين ما يزالان في المرحلة الابتدائية، إلى جانب خالتهما التي تدرس في الجامعة وتسكن معهم.

وتعمل الزوجة في الخياطة بالمنزل لتتمكن من رعاية الطفلين، بينما يتكفل الجد “أبو سالم” بإحضار الخبز.

“لا أستطيع ترك الأولاد بدون خبز، فغياب الأب يحملني مسؤولية عاطفية أكبر لأبقى قريباً منهم”.

وتسكن عائلة الابن الثاني “حسن” في الحي نفسه، زوجته موظفة في مديرية الزراعة، “وأولادها الثلاثة يقضون أيام عطلتهم عن المدرسة في منزلي، أخاف أن أتركهم لوحدهم”.

ومنذ عامين، سافر حسن بعد تسرّحه من الخدمة العسكرية الإجبارية إلى الكويت للعمل.

يأسف والده لأنه لم يتمكن من إتمام دراسته الجامعية، “رغم أن الطموح ميزته منذ طفولته”.

ويضيف عنه: “المسكين العصامي النبيل، لولاه لا أعلم ماذا سيحل بنا، أعلم أنه يعمل فوق طاقته، ويدفع إيجارات المنازل الثلاثة، ويرسل مصروفنا أيضاً”.

السلطة للأقوى

وكل يوم يتعرض “أبو سالم” لمحاولات لسلب دوره قي الطابور منه، لكن موقفه يختلف بين تكاتفه والواقفين أمامه وخلفة لمنع “السلبطة” أحياناً، وعدم الاكتراث أحياناً أخرى.

يقول: “لو كنت بصحتي كما كنت في شبابي لدافعت عن دوري، لكن اليوم أصبحنا في زمن السلطة للأقوى”.

ويضيف أن أفران صحنايا أصبحت من أكثر الأماكن التي تشهد مشكلات وقهر اجتماعي، وقد يتطور الأمر لحوادث إطلاق نار أو مشاجرات دامية.

ويروي “أبو سالم” مواقف حدثت أمامه في طابور الخبز، يقول إنها تمثل حال البلاد والحياة فيها عموماً.

” أناس يدخلون إلى الفرن أمام كل المنتظرين ويأخذون كميات تكفي كل عائلات من في الطابور، ليسوا معتمدين، وبدون بطاقة ذكية أيضاً ويبيعونها بضعف السعر، وكل هذا تحت الصفة الأمنية التي يحملونها”.

وغالباً لا يلجأ أحد للشكوى أو الاعتراض، “لأن هؤلاء هم المسؤولون، هم من يطبق القانون في هذه البلاد”.

هذا بالإضافة للسيارات التي تقترب مسرعة مع أصوات عالية لأغان صادرة منها، ليتحرش بعدها عناصر الأمن أو العساكر المترجلون منها بالنساء.

ويرى الرجل أن القرارات التي أصدرتها الحكومة بخصوص الخبز وتشديد الرقابة على الأفران “غبية ولم تنفع”.

وحين صدر قرار حول وزن الربطة وعدد الأرغفة، تأخر تسليم الخبز وانتظر سكان لأكثر من أربع ساعات ذاك اليوم عند زيارة أحد المسؤولين للفرن ومراقبة البائع كيف يزن الربطة ويعد الأرغفة.

“عندما ذهب المسؤول أزال البائع الميزان بسرعة وأكمل البيع، والغريب أن أحداً لم يهتم، الكل بدأ يصرخ: مشينا الله يوفقك”.

إعداد: حنين رزق- تحرير: حكيم أحمد