عن الحضن العربي

لم تحظَ زيارة وزير الخارجية الإماراتية عبدالله بن زايد دمشق بشروح وتعليقات وافية رغم أنّها تصدّرت نشرات الأخبار، ذلك أنّها بدت مربكة لجهة الشجب الذي أبدته واشنطن في معرض تعليقها على الزيارة، وأنّها إلى ذلك بدت خروجاً إماراتياً منفرداً عن جوٍّ خليجي أعم لازال متباين الرؤى وشديد التباين إزاء الموقف من النظام السوري، لا سيّما مواقف السعودية وقطر، وإذا كانت الأخيرة قد بلغت حدّ ربط موقفها النهائي بالموقف التركي في الملف السوري، فإنّ نوازع السعودية منصبّة على إمكانية إحداث شكل من أشكال “التغيير” (لا يهم إن كان التغيير ديمقراطياً أم لا) في مواقع النظام المتقدّمة، طالما أنّه يؤمّن قسطاً من مصالح السعودية، ويرفع الحرج عنها، إذ تمثّل عودة العلاقات دون شروط انتصاراً للأسد، حيث لا يمكن التقليل من الحاجز النفسي في سياق فهم السياسات العربيّة.

واحدة من ترجيحات عودة العلاقات يكمن في الفهم الإماراتيّ وتأويله الخطاب الرسميّ الأميركي القائل بأن واشنطن تطمح إلى “تغيير سلوك النظام” وليس تغييره، وتغيير السلوك عبارة لا تعني سوى التسليم بمقرّرات جنيف، والأبعد من ذلك فض الشراكة والتحالف السورية الإيرانية، وفصم عرى هذا التحالف في لبنان أيضاً، وهذا ما لا يمكن أن يحصل بحال من الأحوال، بيد أنّ المقاربة الإماراتية في سوريا، والتي تحظى بدورها بعلاقات تجاريّة ودبلوماسيّة فوق عادية مع طهران، قائمة على فكرة مفادها: الكثير من الأسد والقليل من إيران، وأنّ النبذ العربيّ المتواصل، يعني في مكانٍ ما، مواصلة إيران ابتلاعها لكل ما هو سوريّ وما هو عائد للنظام أيضاً، وبذا تصبح المهمّة هي تمكين النظام من تطويق تنامي الوجود الإيراني، أو إبقائه في نطاق محدود، لا يعني ذلك أن يبلغ الخيال مستويات فصل النظام السوري عن شقيقه الإيراني، إنّما الحد من حالة تدهور النظام لصالح التمكين الإيراني الحاصل.

 وإذا كان لا بد من العودة إلى سيرة أسبق يمكن الحديث عن علاقة إماراتيّة مع نظام صدّام حسين في التسعينيات، خلال سنوات الحصار، والتي تنامت على نحو أسرع قبل قليل من سقوط نظام صدّام، ووصلت إلى حدّ طرح مبادرات وقف الحرب عبر تأمين ملاذ آمن لصدّام وعائلته، وقد فُسّر التحرّك الإماراتي وقتئذ بأنّه خروج عن البيت الخليجي السعيد بأفول حكم صدّام، غير أنّ مسعى الإمارات كان في جوهره ينطوي على خشية من تغوّلٍ إيرانيّ مشفوع بطاقة طائفية مهولة، وبذا يصبح الاحتواء حالة أمثل قياساً إلى المواجهة العدميّة، خاصة وأن الإمارات لا تبدو مهجوسة البتة بفكرة حقوق الإنسان والمحاسبة والتحوّل الديمقراطي الذي بات ضرباً من ضروب الخيال مع انسداد الأفق السياسيّ واستنقاع أوضاع المعارضة وتهافت قواها، وبالتالي ثمّة تصالح مع فكرة شديدة الراهنية تتمثّل في أن بقاء النظام إلى أجل غير مسمّى بات هو وسيلة القياس الوحيدة في عودة العلاقات، أو قطعها على نحوٍ مفتوح، ويزيد من هذا الاحتمال التموضع الروسي وانعدام الحماسة الأميركية في إحداث أي تغيير مهم.

قبل الإمارات أعادت سلطنة عمان والأردن والجزائر وموريتانيا علاقاتها بدمشق، ومصر أيضاً تجتهد في ذات المسار، فيما توضّح الخريطة الحالية انقسام الدول العربية إلى ثلاثة اتجاهات: متصالحة، ومتردّدة، ورافضة، وهذه الأخيرة لم يعد يحمل لواءها سوى قطر والسعودية، وهما بدورهما لا يغنّيان الأغنية ذاتها، إن لم نقل بأنّهما يختلفان في كل ما يمتّ لمستقبل سوريا المتخيّل، وهما أيضاً الدولتان التي “تهاوشتا والصيدة فلتت (طارت)” طبقاً لقول مأثور لحمد بن جاسم وزير خارجية قطر السابق.

غير أنّ الثقة بدور وموقع وأهمية الإمارات تجعل من عودة العلاقات العربية مسألة وقت، والحال أنه يمكن تحريك بديهية مفادها أنّ الإمارات ليست موريتانيا، وأن النظام بدأ يتعافى دبلوماسياً في المستوى العربيّ فحسب، دون الدوليّ، كما لا يعني التعافي الدبلوماسي تعافياً اقتصادياً ولا يمكن للنظم العربية الثريّة أن تحدث فارقاً كبيراً في انتشال سوريا من أزمتها الاقتصادية، إلّا إذ اقتصر الدور العربيّ على رفد السوريين بالدواء والغذاء، كما لا تعني عودة النظام إلى قلب المنظومة العربية عودته إلى دوره في تقريع نظم عربيّة لا تشاطره الرأي ولا تخضع لابتزازه، لا تعني العودة أيضاً قدرة النظام على تشكيل تحالفات موازية لتلك التي تقودها الترويكة العربية، مصر والسعودية والإمارات، ذلك أن مياهاً كثيرة جرت في نهر النظام العربي الحالي خلال السنوات العشر الماضية.

الثابت أن عودة العلاقات العربية من الباب الإماراتي يضعف موقف المعارضة، هذا إنّ تبقّى لها أن تعبّر عن موقفها، ويدفعها إلى التسليم بالأمر الواقع، وهي المستسلمة في أي حال لمواقف الدول الراعية، والثابت أيضاً أن الدول العربيّة “المطبِّعة” لن تتمكّن من تجاوز خطوط الحصار المفروضة أميركياً طبقاً لقانون “سيزر”، وهو ما يجعل فكرة الانفتاح والتطبيع تفسيراً للعنوان الأميركي القائم على تغيير سلوك النظام، لا تغيير النظام، ولعل ما يدخل في سياسة تغيير السلوك تلك هو السعي للوصول إلى صيغة تدمج تعبيرات معارضة في جسد السلطة التنفيذية، على هيئة وزراء وبعنوان قد يستلهم شعار “حكومة وحدة وطنيّة”، غير أنّ ذلك لن يعني بأي حال عودة “الإخوان المسلمين” فهم طبقاً لفهم النظام وكذا الثلاثي العربي مصر والسعودية والإمارات، أعداء، يمكن الاستمرار في تجاوزهم ونبذهم.

إلى جوار الانفتاح الإماراتي على النظام السوري، ثمّة خطوٌ إماراتيّ تجاه النظام التركي، ولكن هل يدخل هذا الانفتاح على أنقرة في مسار الوصول إلى تصوّر إماراتي لحل الانسداد السياسي الحاصل في المشهد السوري؟ الغالب على الظنّ، ثمّة شيء من ذلك.