المهاجرون العالقون وضعف الاتحاد الأوروبي

آلاف المهاجرين عالقون بين بيلاروسيا والحدود البولندية، قابعون في البرد المميت، توفى من بينهم حتى الآن 11 لاجئاً، ربما ماتوا من البرد أو من الظروف القاسية أو خلال المواجهة مع جيوش الحدود، لم يفتح أي تحقيق.. هؤلاء جاؤوا بهدف العبور نحو الاتحاد الأوروبي. ولكن لأول مرة لم يحظوا بأي تعاطف إنساني من الأوروبيين .

المسألة سياسية بحتة، تتهم أوروبا النظام الحاكم في بيلاروسيا بإحضار اللاجئين واستخدامهم كسلاح تخريب، مضحية بحياة أبرياء كل مطلبهم هو الهروب من الفقر والحرب في سوريا للعيش في دول الاتحاد الأوروبي .

ومنذ أشهر، تواجه بيلاروسيا تهماً حول فتح حدودها لتسهيل تدفق اللاجئين نحو دول أوروبا بهدف زعزعة الاستقرار والأمن الأوروبيين، أما عن أسباب هذا الفعل من قبل بيلاروسيا فهي تعود لكون أوروبا تدعم الشعب البيلاروسي منذ سنوات في احتجاجاته ضد حكومته الديكتاتورية المدعومة من روسيا .

لكن ورغم الصراع الشديد بين دول الاتحاد الأوروبي وبيلاروسيا، لا أحد يوجه أصابع الاتهام لروسيا، وهي رغم دعمها للنظام في بيلاروسيا ،ما زالت تبدو الدولة الوحيدة التي تمتلك بيدها خيوطاً كثيرة للمصالحات وحل الأزمة بين بروكسل وبيلاروسيا.

ولروسيا الدور ذاته في سوريا، فهي تدعم النظام الديكتاتوري، تسلحه وتساعده في إخماد الغضب الشعبي، لكنها تعتبر في الوقت ذاته الدولة المحورية الحامية والراعية للمصالحات الوطنية في سوريا. إنها الراعية للمصالحات والتوافقات حتى بين دول المنطقة المعنية بالشأن السوري، كما أن روسيا دولة محورية في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا وبإمكانها أن توقفها .

كتب فيودور دوستوفيسكي يوماً عن روسيا يقول: “في المستقبل ستكون روسيا الأقوى بين كل دول أوروبا. لأن القوى الأخرى ستنهكها مطامح الشعوب الديمقراطية غير المحققة وهذا غير وارد في روسيا.. فشعب روسيا لا يطمح لهذا”.

فهل حقاً نبوءة ديستوفسكي هاته ممكنة؟

نلاحظ منذ سنوات تدهور العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة وتوطد العلاقات الفردية مع روسيا لدى كافة المرشحين للانتخابات الرئاسية في فرنسا، كل على حدة، وهذا يوضح ميولاً فرنسية لعلاقات جديدة مع روسيا.

روسيا المتهمة عام ٢٠١٧ بتمويل الحملة الانتخابية الرئاسية للمرشحة مارين لوبين التي كادت أن تصبح رئيسة وانتهت القصة باعترافها أنها اقترضت من روسيا .

وكان الرئيس الفائز “ماكرون” في الانتخابات ذاتها أول من يتخذ خطوات فيها الكثير من التحدي للولايات المتحدة، وربما هذا يبرر ولو بعد سنوات الصفعة الجديدة التي أعطتها الولايات المتحدة لفرنسا من خلال أزمة الغواصات التي لم تنتهِ إلى الحين.

ومنذ بداية حكمه، يجرب “ماكرون” التقرب من موسكو ومجاملتها، فهو أول من اعترف علناً وبوضوح بنفوذ روسيا وتأثيرها على دول الفضاء السوفييتي، وعبر عن احترامه للقوة الروسية كما لم يفعل من قبله أي قائد غربي.

يقال إن السبب هو حذر وريب لاح في الأفق مع نجاح “ترامب” في الانتخابات عام 2016، لقد خشيت فرنسا يومها من الولايات المتحدة، وظهرت تصريحات فرنسية أشارت إلى أن الولايات المتحدة شريك لا يمكن الاعتماد عليه تماماً.

هذا التحول الإيجابي الذي أظهره “ماكرون” نحو روسيا ، جعل “بوتين” يطمح في أن تتخذ فرنسا مواقف إيجابية معها في صراعها ضد الولايات المتحدة في الملف الأوكراني، وكذلك طمح “بوتين” لأن تجر فرنسا معها دول الاتحاد الأوروبي، لا سيما وأن علاقاته جيدة مع المستشارة أنغيلا ميركل.

ولم يخيّب “ماكرون” أمل روسيا، فهذا فعلاً ما فعلته فرنسا التي جمدت قبول عضوية ألبانيا ومقدونيا الشمالية في الاتحاد الأوروبي .

ومنذ العام ٢٠١٩، كثيراً ما عجت الصحف الروسية بمديح روسي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو الذي ذهب بعيداً في تصريحاته عندما أعلن أن الناتو يحتضر، وبشر موسكو بالموت السريري لحلف الناتو، منادياً دول الاتحاد الأوروبي بالتوجه نحو موسكو وتعزيز علاقات التبادل والعمل المشترك الاستراتيجي معها.

ومن ضمن البرنامج المقترح آنذاك من قبل الرئيس “ماكرون”، كان هناك الجانب الأهم وهو استبدال الولايات المتحدة بروسيا، فقد صرح بأن حلف الناتو لا عدو له إلا الإرهاب الذي على أوروبا أن تواجهه جنباً إلى جنب مع روسيا.

التبرير الذي أعطاه ماكرون وغيره من السياسيين الفرنسيين حينها لهذا المنحنى الجديد في السياسة الفرنسية هو أن روسيا أوروبية !

يتساءل البعض: هل هذا يكفي؟

ويضيف أخرون أن روسيا هي محور الصين وهذا يبرر التقارب معها، الصين وروسيا في حلف قديم والديناصور الصيني يخيف الغرب. بالتالي التقارب مع روسيا هو بهدف تجنب الصراعات، وهنا أيضاً يُتوقَّع من روسيا لعب دور التهدئة في حالة العواصف والصراعات مع الصين.

في الواقع، كان “ماكرون” أول رئيس فرنسي يقود نحو تقارب من هذا النوع مع روسيا، وقبله حصل مراراً أن تفردت فرنسا بقراراتها عن الولايات المتحدة، وصل لدرجة رفض الانصياع للقرار الأميركي، لكن فرنسا كانت دائماً تتفرد دون تغيير لتحالفاتها. لقد كانت دائماً وفية للولايات المتحدة التي تربطها بها علاقة تاريخية وعهود ليس من السهل فسخها.

هذا بالتحديد ما ذكّرت فرنسا به نائبة الرئيس الأميركي السيدة كامالا هاريس التي حضرت لباريس منذ أيام لاستدراك الأزمة ولمصالحة فرنسا بعد أزمة الغواصات، ويبدو أنها نجحت .

أما قضية اللاجئين العالقين في البرد، فالتصعيد مستمر باسم الصراع السوري والنكبة العراقية ومسميات كثيرة.

الجديد ليس فقط انعدام التعاطف الجماهيري مع هؤلاء اللاجئين الضحايا، لكن الجديد هو صعود التيارات العنصرية وتبني أغلب الأحزاب المرشحة لرئاسة الجمهورية الفرنسية لبرامج قيود وطرد للاجئين.. وماذا لو وقف أربع ملايين لاجئ على الحدود؟ وماذا لو اقتحموا الحدود؟

في النهاية لا شيء يحمي أوروبا أكثر من القيم الإنسانية التي بنيت عليها صبيحة الحرب العالمية الثانية حين قررت الشعوب أن تنبذ العنصرية وتتبنى قيم المساواة والحرية .

العبثية هي أن تطلق أوروبا رصاصة في ساقها وترفض ٢٠٠٠ لاجئ وتترك الناس تموت برداً.. هذه هي العبثية المكلفة.