الانقلاب العسكري السوداني الرابع

حصلت ثلاثة انقلابات عسكرية سودانية، في عام 1958 بقيادة إبراهيم عبود، و1969 بقيادة جعفر نميري، و1989 بقيادة عمر البشير. وتم إسقاط  الحكم العسكري الذي نتج عن تلك الانقلابات الثلاثة بواسطة ثورات شعبية في الشارع من خلال ثورات تشرين الأول/ أكتوبر 1964، ونيسان/ أبريل 1985، وفي التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2018، والحادي عشر من نيسان/أبريل 2019.

ولم يدم الحكم العسكري الأول أكثر من ستة أعوام، فيما دام الثاني لـ 16 عاماً، والثالث ظل قائماً لـ 30 عاماً، وقد كانت الثورة الأولى أقل إيلاماً في توليد النتائج، والثانية أكثر قليلاً، فيما كانت الثالثة أطول حيث امتدت لما يقرب من خمسة أشهر وسقط فيها قتلى كثيرون.

أعقبت ثورة تشرين الأول/ أكتوبر التي نجحت في إسقاط حكم “عبود” حكومة مدنية من الأحزاب والنقابات العمالية والمهنية أشرفت على انتخابات 1965 البرلمانية، وأعقب ثورة نيسان/ أبريل 1985 مجلس عسكري أشرف على الانتخابات البرلمانية بعد سنة، فيما كان تدخل الجيش في ذروة الثورة ضد “البشير” مؤدياً أيضاً وثانية إلى مجلس عسكري.

ولكن العسكر لم يستطيعوا الانفراد بالسلطة واضطروا بعد أربعة أشهر لتشكيل “مجلس سيادة” حاكم بالتشارك مع “قوى الحرية والتغيير”، التي كانت المحركة للشارع ضد البشير بما تضمه من قوى سياسية ومنظمات مهنية ونقابية، ثم انضمت لمجلس السيادة الحركات المتمردة المسلحة في دارفور والنيل الأزرق إثر توقيع اتفاقية جوبا في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر 2020.

وهو ما أنشأ تحالفاً في “مجلس السيادة” بين هذه الحركات والمكون العسكري استغله الفريق عبدالفتاح البرهان ليقوم بانقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2021 قبل ثلاثة أسابيع من موعد تسلم المدنيين لرئاسة مجلس السيادة من العسكر ثم ليعيد في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر مع تلك الحركات تشكيل مجلس سيادة جديد مستبعداً فيه “قوى الحرية والتغيير” التي كانت تشكل المكون المدني في مجلس عام 2019.

هنا، من الضروري دراسة بيئة حدوث الانقلابات العسكرية السودانية الأربعة، هذا إذا تركنا دراسة محاولات الانقلاب الفاشلة وهي تتجاوز العشرة في تاريخ السودان منذ استقلال 1956، بوصفها تعبيراً عن بنية اجتماعية رخوة وغير متماسكة.

أتى انقلاب 1958 في ظرف تمرد الجنوب المسلح منذ عام 1955 وفي ظرف حكومة كانت موالية للغرب البريطاني، بينما  كان نجم “عبدالناصر” صاعداً بعد هزيمة لندن في حرب 1956، وهو ما أنتج اضطراباً داخلياً واجهت من خلاله الحكومة معارضة صاعدة من القوى الاتحادية الموالية لمصر ومن الشيوعيين.

 بينما أتى انقلاب 1969 في ظرف انقسام حاد عاشته الحكومة البرلمانية بين الحزب الوطني الاتحادي، الذي يستند إلى طائفة الختمية، وحزب الأمة الذي يستند إلى طائفة المهدية.

 وزاد الانقسام مع انقسام المهدية بين الهادي المهدي زعيم الطائفة وابن أخيه الصادق المهدي، وهو ما أتاح المجال لتنظيم الضباط الأحرار، وهو مكون من ضباط ناصريين وقوميين عرب وبعثيين وشيوعيين، أن يستولي على السلطة، وهو ما تكرر عام1989عندما انقسم الحكم المدني بين الحزبين الكبيرين “الوطني الاتحادي” و”الأمة”، ليستغل الإسلاميون بزعامة حسن الترابي ذلك ويقفزوا للسلطة عبر تنظيمهم العسكري.

وأتى انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2021 في ظرف انقسام “قوى الحرية والتغيير” وفي ظل جو إقليمي لا يريد لتجربة أن تنجح في إقامة حكم ديمقراطي مدني عقب ثورة شعبية بل يريد عودة العسكر للسلطة كما في مصر 2013 أو أن يحكم العسكر عبر واجهة مدنية كما في الجزائر أو في تونس ما بعد الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 2021 أو أن يستلم عسكري السلطة عبر انتخابات كما يتم الآن في ليبيا مع انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر 2021 عبر المرشح الرئاسي خليفة حفتر.

ومن الضروري أيضاً دراسة بيئة استمرار الحكم العسكري ثم بيئة سقوطه.

كان اتفاق تقاسم مياه النيل مع مصر في عام 1959 مؤدياً إلى تقوية حكم إبراهيم عبود بما أدى إليه من علاقات قوية بين الخرطوم والقاهرة، ولكنه لم يستطع الاستمرار عندما تكاتفت الأحزاب كلها ضد الحكم العسكري في عام 1964.

كان توافق “النميري” مع “عبدالناصر” ثم “السادات” أساسياً في مواجهته لمعارضة الشيوعيين ثم في تفشيل محاولة الانقلاب العسكرية في (19-22) تموز/ يوليو 1971 التي قادها الرائد هاشم العطا والتنظيم العسكري للحزب الشيوعي، كما أن اتفاق النميري مع المتمردين الجنوبيين عام 1972 قد أمن للنميري حكماً داخلياً مستقراً مع دعم من القاهرة والرياض وواشنطن، ولم يهتز حكم النميري سوى بفترة 1983-1985 عندما اندلع التمرد الجنوبي ثانية وانفكت شراكته مع حزب الأمة عام 1983 ثم مع حسن الترابي في عام 1985.

واستمر حكم البشير 30 عاماً أولاً بحكم أنه كان مدرعاً بتنظيم سياسي تغلغل في الجيش والادارة وتمكن في كل مفاصل السلطة، وبحكم أن القوى السياسية كانت ضعيفة، وكان التحدي الأكبر أمام حكم الإسلاميين الذين كان العسكر وعلى رأسهم البشير واجهتهم، هو التمرد الجنوبي بقيادة العقيد جون غارانغ.

وقد كان عقد اتفاق نيفاشا عام 2005 الذي مهد لانفصال الجنوب عام2011 مؤدياً إلى تقوية حكم البشير ومد عمره لـ14 عاماً، كما كان اتفاق 1972 مع النميري الذي أعطاه 13 عاماً واجه خلالها محاولات انقلاب عسكرية فاشلة في أيلول/ سبتمبر 1975 وتموز/ يوليو 1976، فيما كان اتفاق نيفاشا أوكسجيناً للبشير واجه من خلاله تمرد إقليم دارفور وتمرد إقليم الشرق وتمرد منطقة جبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق من دون أن يهتز أو يضعف حكمه.

كانت الأزمة الاقتصادية سبباً في اندلاع ثورة التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2018 والحادي عشر من نيسان/ أبريل 2019 ضد البشير، ولو استخدم العنف المفرط ربما كان قادراً على الاستمرار، ولكن انقسام العسكر تجاه استخدام العنف في فترة ما بين السادس والحادي عشر من نيسان/ أبريل هو الذي أتاح المناخ من أجل الإطاحة بالبشير من قبل ضباط من رتب عليا أحسوا بضرورة اقتناص الفرصة لإظهار أنفسهم بمظهر المنقذ من النظام القائم وبمظهر المستجيب لإرادة الشارع الثائر، وفي المآل يستلمون دفة السلطة وينفردون بها.

ولم يستطع الفريق عبدالفتاح البرهان ذلك، واضطر في السابع عشر من آب/ أغسطس 2019 للتوقيع على وثيقة الشراكة مع “قوى الحرية والتغيير”.

انقلاب الخامس والعشرين من أوكتوبر2021 هو انقلاب على وثيقة السابع عشر من أغسطس التي تنظم وتؤسس للمرحلة الانتقالية.

السؤال الآن: هل يستطيع عسكر السودان الانفراد بالسلطة بالتعاون مع حركات مسلحة من دارفور والنيل الأزرق، في ظل معارضة واشنطن والاتحاد الأوروبي ولندن لهم، رغم وجود دعم إقليمي للحكم العسكري السوداني من مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل؟…