“الموليا” هوية الشعر الشعبي وإرث الأغنية الفراتية في الرقة
الرقة- نورث برس
ما تزال “الموليا” التي يصفها الشاعر إسماعيل الكدي بالبرزخ بين الشعر الشعبي والفصيح، تستهوي سكاناً في الرقة شمالي سوريا.
ويرى مهتمون بالفن في الرقة أن الموليا معبرة بصورة أو أخرى عن السمات العامة لشخصية مجتمع بأكمله، وأن الأغنية الشعبية الفراتية شكلت بشعرها الغنائي إرثاً ضخماً يضاف لتراث الفرات.
يقول إسماعيل الكدي، وهو شاعرٌ ومدير مكتب الفنون الأدبية بمركز الرقة الثقافي أيضاً، إن الموليا من أشهر فنون الشعر والغناء الشعبي لدى العرب عموماً، وسكان الرقة خصوصاً.
“وقد جذبت اهتمام مؤرخي الأدب العربي ودارسيه باعتبارها واحدة من الفنون الملحَّنة التي انحرفت عن الفنون الغنائية الأخرى وصار لها طقسها الخاص والمتميز”.
ومازالت أغانيها خالدة وعالقة في الأذهان، ولها عدة طرق في اللحن والأداء، وتكتب بطريقة واحدة هي التي تكون مؤلفة من أربعة أشطر، وتسمى بيتاً.
وتعود نشأتها إلى العصر العباسي، إذ كانت جارية تتمنع عن سيد القبيلة وعند قدومه إليها وجدها تبكي فضربها ظناً بها كانت عاشقة لغيره.
فجاوبته بالعربية الفصحى: “مولاي ما للهوى أعني مواليا”، ومن كلمة “مواليا” أتت كتابة شعر الموليا.
“كلمات بسيطة”
وتتكون الموليا من أربع أشطر بجناس واحد يختلف بالكتابة والمعنى، والشطر الرابع ينتمي لياء مشددة وهاء مهمزة.
والأغنية الشعبية في الرقة تمتاز بصفات أساسية، فهي ذات كلمات بسيطة تعتمد بشكل أساسي على أدوات موسيقية بسيطة كالدّف والمزمار والربابة.
وتمتاز أيضاً بالصدق والعفوية، فهي تلبي حاجات الإنسان ورغباته أكثر من الأغنية التي تغنى باللغة الفصحى، لأنها أقرب إلى القلب بمضمونها وتعدد ألوانها.
وتتعدد الألوان الغنائية في الرقة، وأبرزها الموليا والعتابا والنايل والسويحلي والميمر والأبوذية.
يقول الشاعر “الكدي” إن الموليا كتبت أولاً باللغة العربية الفصحى، ثم دخل اللحن إليها وكُتبت باللهجات العامية.
وبحسب كتاب “شعراء الموليا في القرن العشرين” لصاحبه محمد الموسى الحومد، وهو باحث من الرقة مهتم بتوثيق الشعر، فإن أولى جلسة للموليا في الرقة كانت عام 1898.
ففي ذلك العام، قدم الشاعر “ابن عوين الجبوري”، حاملاً معه حكاية حبه لـ “هدلة الحمد”، وباحثاً في الرقة عمن يصفها له بعد أن توفيت عن عمر 55 عاماً ولم يتزوجا.
وذلك لأنه سمع أثناء تنقله بين شعراء الجزيرة السورية أن شعراء ينظمون لوناً اسمه “الموليَّا”.
وكانت حبيبته قد تركت له بيتاً من الشعر قبل أن تفارق الحياة، تقول فيه: (سلِّم وزيد السلام وإن جيت ابن عوين وشلون يسلا الولف اللي نباهم زيـن).
“فترة سكون”
قال “الكدي” إن الشعر الشعبي دخل خلال فترة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الرقة وخصوصاً الموليا في “حالة سكون، خوفاً من ملاحقة التنظيم لكل المغنيين والشعراء في المدينة”.
وابتعد آنذاك أغلب الشعراء والمغنيين والمهتمين بالثقافة والفنون عن اهتماماتهم المحظورة، خوفاً ملاحقة عناصر التنظيم لهم.
وبحسب “كتاب شعراء الموليا في القرن العشرين”، فإن المقهى الذي شهد أولى جلسة لشعراء الموليا في الرقة كان مبنياً من أعمدة الخشب ومغطى بعيدان السوس.
وبدأ حوار الشعراء مع “ابن عوين” بعد أن حدثوه عن لون ووزن الموليا وأسمعوه نماذج منها.
“حبر دفق من على القرطاس عين لها، تشبه جواز بحماد رميم عينولها
حط الهتيمي على الميراد عيـن لهـا، قالت لاتاهم حبيبي رباة شرجيّه”.
وتلاه الشاعر درويش الكنعان الذي كان يجاوره في الجلسة:
“شهد العسل من على الكاسات ريج لها، لمن مشت بالنزل طبول رج لها تشبه جـواز بحـماده مطالعه رجلهـا، شافت هتيمي جفلت بفجوج بريه”
ثم قال محمد الذخيرة: “ليلو ثنايا الترف الماز سن لها، يجازيةٍ تسجد العلام سنه لها، الطير الأوشح صعد بالجو سن لها، جلجل عليها بجناح وحراب مدميّه”.
وكانت تلك أول أمسية أدبية يتناقلها سكان وشعراء الرقة في لون الموليا، وأخذت المقاهي تحمل أسماء الألوان الغنائية، لاسيما مقهى “موليا” ومقهى “يا يمّا”.
وتشتهر عدة بلدان في لون “الموليا” ومنها فلسطين وعمت بلاد الشام كونها سهلة الاستخدام لتراكب مقاطعها الغنائية على مقامي نهاوند وبيات.
كتاب اشتهروا بها
وأشهر من كتب الموليا في “الرقة” هو محمد الذخيرة، وهو والد الشاعر محمود الذخيرة الذي اشتهر أيضاً بنهج والده بكتابة الموليا، بالإضافة إلى الشاعر فصيح الملا أحمد وخلف الفرج وعلي اسماعيل الكلاح، بحسب “الكدي”.
وكان “الذخيرة” من بين الشعراء الذين وصفوها في ذلك الزمان، وهو ما يزال صبياً، إذ يقول: “ليلو ثنايا الترف ألماز سن الها يجازيـةٍ يسجد العلام سنه لـها الطير الأوشج صعد بالجو سنه لها جلل عليها بجناح وحراب مدميَّه”.
وكان عندما يسأل عن أجمل بيت قاله، يختار: “نيران كَلبي شعلت يا حمو سانيها عالريمة اللي سلبت عكَلي بمعانيها حيــن تبسم وتلوح لـي ثمانيها بيض الرهايف بعود الروك مجليَّه” ويقال أن هذا البيت آخر بيت نظمه من لون “الموليَّا”.
وتوفي “الذخيرة”، سيد الموليَّا في الرقة، عام 1975 عن عمرٍ يناهز الثامنة والتسعين.
يقول ابنه الشاعر محمود الذخيرة إن والده لم يقل سوى 126 بيتاً من الموليَّا، “وكل ما ينسب إليه فوق ذلك مشكوك فيه”.
ومن أبرز كتاب الموليا أيضاً محمد الحسن وشقيقه حسين الحسن، وهما متوفيان، لكن ولديهما زيد محمد الحسن و عبدالله حسين الحسن” واصلا بعدهما.