الإدارة والنظام: أيّ تفاوض؟

وقع كرد سوريا خلال العقد الأخير في منزلة بين منزلتين، من جهة لم يعودوا رعايا دولة النظام، فيما لم يصبحوا مواطنين في المقابل، لامتناع انتقال سوريا إلى دولة ديمقراطية متعدّدة الإثنيات.

غير أنّ تحصّلهم على الحكم الذاتي (الإدارة الذاتيّة) من جهة واحدة، عزّز للمرة الأولى حضورهم الداخلي، بينما أفضت حملة التحالف الدولي للقضاء على داعش إلى تشكيل منطقة راحة غير معلنة للكرد، على غرار تلك التي مكّنت كرد العراق من تشييد نظامهم الإداري والسياسي إبان حرب الخليج الثانية، أو ما عرف بمنطقة حظر الطيران على جزء واسع من مجمل أراضي كردستان العراق، تحديداً خط العرض 36.

 بقي القياس بين الحالتين ينطوي على فروقات بيّنة، رغم أنّ القاسم المشترك الأكبر بين الحالتين يكمن في أن كرد سوريا الآن كحال كرد العراق الذين كانوا في مواجهة المجهول رغم هوان وتردّي وعزل نظام صدّام دولياً وحصاره، وبذا كان العامل الذاتي مبنيّاً على فكرة احتمال تجدّد الحرب بين بغداد وكردستان، ولعل المجهول ذاك دفع حزبيهما الرئيسيين إلى التفاوض مع نظام بغداد حيناً وإلى التحفّز لمواجهته أحياناً أخرى.

ولئن كان نظام بعث العراق أكثر قدرة على الخوض في التفاوض مراراً، لكن بما لم يتعدّ حملاته الإبادية ومجازره وإعداماته واغتيالاته، وبمعزل عن نتائج التفاوض وقتذاك؛ فإنّ نظيره السوري ما انفك يزدري فكرة الحوار مع كرد سوريين، أيّاً كانوا، فكيف يقبل بالتفاوض الذي دخل قاموس معارضين كرد وعرب كمنتجٍ للحرب السورية؟ فضلاً عن أنّه ما يزال يعيش حالة نكران مديدة لوجود كرد  لهم قضيّة عادلة.

وإذا كان النظام قد ساهم في دعم أحزاب كردستانيّة وشدّها إلى مصالحه الإقليميّة وهو ما خلق حالة “امتنان” لدى بعض تلك الأحزاب كما في حالتي العمال الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، فإنّه في الوقت عينه وضع كرد سوريا موضع العدوّ الموضوعيّ، وقد كان لعداء الكرد أن قرّب النظام الشوفيني إلى حاضنته الشعبيّة الشوفينية والتي قام هو بدوره بتدريبها على العنصرية والتشاوف والتشكيك في نوايا الكرديّ لحظة مطالبته بالمساواة والاعتراف.

عبر تجربة مريرة وطويلة، احتكم الكرد في الدول الأربعة التي تتقاسمهم على سياسة قائمة على مرتكزين، الديمقراطية للبلاد والحكم الذاتي لكردستان، غياب الأولى عنى تدهور الأخيرة حال التحصّل عليها، وموطن الشاهد هو تجربة الحكم الذاتي المعلنة من طرف واحد في جمهورية كردستان الإيرانية “مهاباد” ثمّ تجربة الحكم الذاتي بكردستان العراق في سبعينيات القرن الماضي اللتين تعرّضتا لنهايتين مأساويتين، وإلى تجدّد القتال في وقت لاحق، وذلك لسبب جليّ وهو غياب الديمقراطية في العواصم التي تحكم الكرد، وإذا كان تحقيق الديمقراطية مستحيلاً لمجرّد مطالبة الكرد وحدهم دون بقية شركائهم بذلك، فإنّ الحكم الذاتيّ بدوره لن يصمد حال غياب الديمقراطية، وهذا التلازم يصعّب حل القضايا الكردية مهما كان العامل الكردي الذاتيّ قويّاً.

 ولعل طيّ صدام حسين ورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان إبان المفاوضات مع الحزبين الكردستانيين يشي بفهم الغاية من التفاوض على ملفّ الحكم الذاتي عبر جعل التفاوض أقرب لمناورة تهدف إلى شراء الوقت حال تحسّن شروط الحرب، وبهذا المعنى تحديداً تسعى دمشق إلى فصل جهد الإدارة الذاتية المتمثّل في توسيع دائرة المطالبين باللامركزية عبر حصر التفاوض بين النظام وكرد سوريا، على ما أشيع بأنّ روسيا تطلب فصل قضيّة كرد سوريا عن بقية القضايا السوريّة، وما من شأنه تالياً إقامة الفصل بين الكرد وبقيّة (أو جزء من) السوريين وقضاياهم، أو كما تسمّيه حنة آرنت  “فقدان الصلة بالعالم”، وهو ما يعني في وجه ما عزل الكرد نفسهم، لكن عبر اتفاق، بعد أن كانوا معزولين رغماً عنهم.

وبمعزل عن قوّة النظام وتقدّمه أم ضعفه وتقهقره، يبقى إرساء السلام رهين التفاوض، بالضبط رهين ممارسة السياسة بما هي الوسيلة الوحيدة لإبطال الحرب، لكن السياسة في قاموس النظام هو ما عشناه طوال سنوات الحرب السورية، وبطبيعة الحال يمكن قراءة موقف النظام البارد تجاه دعوة الإدارة الذاتية إلى التفاوض والوصول إلى اتفاق مبرم، على أنّه مزيج من الإيحاء بالقوّة وانتظار ما ستسفر عنه التهديدات التركية التي من شأنها دفع الإدارة والكرد إلى بذل التنازلات التي قد تصل إلى مستوى الاستسلام غير المشروط، وهذه القراءة فوق أنّها تعرقل السياسة وتؤخّرها وربما تنهيها، فهي قد تولّد موقفاً كرديّاً شديد التصلّب تجاه النظام.

حصر التفاوض بين الكرد والنظام، وبمعنى أدق حصره بحزب الاتحاد الديمقراطي، يضرّ بالعملية برمّتها وبالاتحاد الديمقراطي تالياً، ذلك أنّ السلام يستلزم توافقاً كرديّاً، وتشكيل فريق من شأنه أن يتحمّل المسؤولية كاملة، ويقطع الطريق على المزاودات التي ستظهر بكل تأكيد، وهذا التوافق على صعوبة الوصول إليه، يضع النظام في منطقة أفضلية مجدّداً، ذلك أن انقسام المواقف الكردية، وعدم التحزّم بمعارضة ديمقراطية داعمة، سيفضي إلى عودة العسف والاضطهاد حال حصر الكرد في شريطهم الحدوديّ الضيّق وفي منطقة مختلطة إثنياً مهما تضاعف فيها الوجود الكرديّ أو تناقص.

ثمّة إكثار من التصريحات حول التفاوض مع دمشق في هذه الغضون، وتعويل موازٍ على روسيا بوصفها ضامناً، يزيد من هذا التعويل سعار تركيا، وبقاء كتاب الانسحاب الأمريكي مفتوحاً، لكن ما يجعل من هذه التصريحات قليلة الحصافة هو انعدام الجدية في توحيد الموقف السياسي الكردي والمتحزّم بدعم ديمقراطيين سوريين قبل كل شيء.

في واحدة من طلبات الراحل جلال الطالباني إلى صدام حسين إبان تفاوضهما كان الدعوة إلى إشراك مسعود البارزاني، غريمه التقليديّ يومذاك، باعتباره جزءاً من عملية السلام بين كردستان وبغداد، كان تصرّف “الطالباني” سياسة محضّة على ما يدركه من أن إرساء السلام ليس عمل حزبٍ بمفرده، ورغم أنّ الوقائع كانت تشير بأنّ صدام لن يقابل الحل السياسيّ إلّا بالخداع والسلاح فيما بعد.