تساؤلات نازح من رأس العين عن ماهية “حق تركيا” في شن الحروب
الحسكة- نورث برس
أن يتجاوز العمر الثمانين، ويستعد المرء للاسترخاء بعد سعي وشقاء مستفيداً مما أنجزه في مراحل سابقة، هو ما كان محمود شيخو مشي يتوقعه في هذه المرحلة من حياته.
إلا أن اجتياح تركيا لمدينته سري كانيه (رأس العين) تسبب بنزوحه مع عائلته، بينما لما تزال الدولة الجارة مستمرة في الوعيد والاستهداف.
عاش المسن لعامين متتاليين ظروفاً بالغة الصعوبة في مركز إيواء نازحين (بناء مدرسي) في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا.
ويتساءل الآن عن ماهية “حق تركيا” في حروب الإبادة التي شنتها عبر التاريخ والاستمرار في تهديد المناطق المجاورة لحدودها.
وبعد أعوام من عمليات عسكرية على الأراضي السورية، لم تتوقف التهديدات التركية ولا استهدافاتها في مناطق الإدارة الذاتية، رغم وجود اتفاقيتين لوقف إطلاق النار تم التوصل إليهما بينها وكل من روسيا والولايات المتحدة منذ العام 2019.
فتهديدات تركيا وهجماتها التي بدأت منذ تأسيس الإدارة الذاتية، استمرت حتى بعد سلخ مناطق عفرين وسري كانيه وتل أبيض بذرائع إنشاء مناطق آمنة، وهو ما دحضته تقارير حقوقية محلية ودولية.
“الدواعش في أرضنا”
ويعيش المسن، الذي يعاني من مشكلات صحية، مع عائلته المؤلفة من شاب وفتاتين ووالدتهم في مدرسة فواز جولي في حي الناصرة بالحسكة.
ولا يدري ما حل بمنزله وممتلكاته هناك في مدينته التي سيطرت عليها تركيا قبل ثلاثة أعوام وسلمت مصير من تبقى من ساكنيها لمسلحي الفصائل الموالية لها، والتي وصف تقرير محققين أممين انتهاكاتهم بعد عام بأنها قد ترقى لجرائم حرب.

وقايضت تركيا في مراحل سابقة من الحرب السورية مناطق سورية كانت تسيطر عليها المعارضة بالمناطق التي يسكنها كرد وعرب ومسيحيون شمال شرقي سوريا.
ما جرى لعائلة “شيخو مشي” أو ما يشبهه كان مصير 300 ألف نازح بعد الهجمات التركية عام 2019.
توجه كثير منهم آنذاك لمخيمات أنشأتها الإدارة الذاتية أو لمراكز إيواء قيل إنها مؤقتة، بينما توزع آخرون في مدن وبلدات شمال وشرقي سوريا.
يقول الرجل إنه وشقيقه كانا يمتلكان منازل ومحالاً وآليات في سري كانيه.
ويضيف: “لو خُيّرت بين طن من الذهب والعودة إليها لاخترت العودة إليها”.
لكنه يستدرك: “لا نستطيع الآن، ما يزال الأتراك والدواعش في أرضنا”، في إشارة إلى فصائل المعارضة الموالية لتركيا والتي استولت على ممتلكاته وسكان ونازحين آخرين.
وتشير حوادث متفرقة إلى وجود قياديين لتنظيمي القاعدة و”داعش” بين المسلحين الموالين لتركيا أو تحت حمايتهم.
ففي الثالث والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، أعلنت القوات الأميركية عبر بيان تصفية القيادي في تنظيم القاعدة عبدالحميد مطر بضربة جوية، قائلة إن التخلص منه سيقوض قدرة التنظيم الإرهابي على التخطيط من الهجمات العالمية ضد المواطنين الأميركيين والمدنيين الأبرياء.
وعقب ذلك بيومين، استهدفت طائرة بدون طيار، يعتقد أنها أميركية، القيادي البارز في تنظيم “داعش” صباحي الإبراهيم المصلح والملقب بـ أبو حمزة الشحيل، ليقتل مع اثنين من مرافقيه في قرية العدوانية بريف سري كانيه.
وسبق أن شهدت مدينة سري كانيه رفع أعلام تنظيم “داعش” أثناء احتجاج للسكان بموقف الرئاسة الفرنسية من رسوم كاريكاتيرية طالت النبي محمد، في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2020.
“لو أننا زواحف لأكلنا تراباً”
وبعيداً عن ممتلكاتهم، يسكن أفراد عائلة “شيخو مشي” في غرفة صفية بآخر ممر المدرسة في الحسكة، حيث قاموا ببناء جدار في الممر لكسب مساحة إضافية إلى جانب الغرفة والحصول على بعض الخصوصية.
يستذكر رب العائلة ما حدث يوم هاجم الجيش التركي واشتد القصف على المدينة، “في الرابعة عصراً بدأ القصف، وبصعوبة تمكن السكان من الفرار على دراجات هوائية أو مركبات حلفاوية أو سيارات، خرجت بهذا الثوب الذي أرتديه”.
وتقضي العائلات النازحة أيامها وسط ظروف معيشية متدهورة وندرة المساعدات الإغاثية سواء من الأغذية أو الأدوية أو وقود التدفئة ومستلزمات العيش الأخرى.
يقول الرجل الثمانيني: “لا نستلم أغذية، لو تستطيع أخبرهم، اسألهم لم لا يحضرون المساعدات لنا كمن في المخيمات، أليست لنا أفواه؟ لو أننا زواحف لأكلنا تراباً، لو كنا مواشي لتناولنا تبناً”.
ويضيف: “أوضاعنا في سري كانيه كانت جيدة للغاية، كنا نعيش في راحة وتتوفر الأغذية، كانت جيدة من جميع النواحي حتى قصفنا الأتراك”.
وتعاني مناطق شمال وشرق سوريا من شح المساعدات الأممية، وهو ما تعيد الإدارة الذاتية سببه إلى استمرار إغلاق معبر اليعربية الإنساني بسبب الفيتو الروسي، وتسييس ملف المساعدات من جهة حكومة دمشق.
“أي حق لتركيا؟”
وفي الغرفة نفسها، تمتلئ عينا فريدة محي الدين (65 عاماً) بالدموع وهي تستمع للحديث عن رأس العين، وهي زوجة شقيق المسن قدمت من كوباني لزيارة العائلة بعد أن فرقهم النزوح.
تقول إن سري كانيه، التي عاشت فيها 40 عاماً بعد زواجها، ماتزال تضم رفات زوجها وابنها الشهيد الذي ترك خلفه خمسة أطفال.
ويرى “شيخو مشي” أن تركيا تستمر في سياساتها التاريخية ضد الكرد وشعوب المنطقة، “تركيا لا تملك أي حق فيما فعلته بنا، ما الذي أعطاها الحق في ذلك؟”
وتتهم تركيا الكرد في سوريا والإدارة الذاتية بأنهم امتداد حزب العمال الكردستاني المحظور من جانب أنقرة، بينما يتهمها الكرد بعدم التوقف عن سياساتها ضدهم.
وسبق لتركيا أن اجتاحت منطقة عفرين شمال حلب والتي كانت تديرها الإدارة الذاتية، لتسبب بنزوح السكان ونهب ممتلكاتهم على يد مسلحي الفصائل الموالية لأنقرة.
يعود محمود شيخو مشي للتاريخ: “تركيا ذبحت عام 1916 مليوني مسيحي، بأي حق فعلت ذلك؟”
ويستشهد أيضاً: “وعام 1924 قامت بتهجير الكرد من بدليس ووان وهكاري وسيرت، بأي حق فعلت ذلك؟”
ويرى السياسيون الكرد إن تركيا تضيّق على الكرد في العراق أيضاً بين الحين والآخر، وإنها ستعاديهم حتى لو كانوا في كواكب أخرى، على حد تعبير النائب السابق في البرلمان التركي عثمان بايدمير.
ويكمن مأزق الكرد السوريين حالياً في عدم رغبتهم بالعودة لمرحلة ما قبل العام 2011 بعد أن طردوا مسلحي الفصائل المتشددة من مناطقهم عقب فرار قوات حكومة دمشق.
وتطالب الإدارة الذاتية دمشق بالمحافظة على شكل من اللامركزية، ومنح خصوصية لقوات سوريا الديمقراطية.
ورغم أن الإدارة الجديدة للولايات المتحدة الأميركية كررت خلال الفترة السابقة دعمها الاستقرار في شمال وشرق سوريا، إلا أن ذلك لم يمنع أن تستمر الاعتداءات التركية على مرأى منها وروسيا، بحسب بيانات للإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية.
وفي انتظار حل دائم للمسألة السورية وضمنها قضية الكرد ومكونات الشمال الشرقي، سيبقى “شيخو مشي” والنازحون الآخرون ممنوعون من ديارهم وممتلكاتهم بسبب الاستعداء الذي طغى على البلاد بمباركة القوى المتدخلة في الصراع.