تخريب وطن

في ظل الأزمة الخانقة التي تعصف بالسوريين وغياب الحلول العملية لغلاء المعيشة، بات كثير من الموالين يحمل النظام مسؤولية عدم إدارة الأزمة بصورة صحيحة، بل صار بعضهم يقول بأنه كان بالإمكان منع تفجرها منذ البداية لو أن الرئيس نفذ ما وعد به في بداية عهده الجديد من إجراء إصلاحات عميقة على النظام وسياساته.

بعد عشر سنوات من عمر الأزمة لم يعد كثير من الموالين يحسبون أن ما جرى كان حتمياً، وأن سوريا بسبب من مواقفها “الممانعة” تدفع الثمن، وهم بذلك بدأوا يقتربون كثيراً من المعارضة الوطنية الديمقراطية في رؤيتها لأسباب الأزمة. وهكذا بدأت تنزاح من تحليلاتهم ما روج له النظام طويلاً من أن المؤامرة الكونية على سوريا ونظامها هي السبب الوحيد لأزمة سوريا، وباتوا يحسبون النظام طرفاً من أطرافها، على الأقل بصورة موضوعية، أي نتيجة لفشله في تحصين البلد والشعب ضدها بداية، وفي منع حصولها تالياً، ومن ثم فشله في إدارتها بعد حصولها.

في الواقع لم يعد الحال يقتصر على الموالين والذين في غالبيتهم من البعثيين أو من الأحزاب المتحالفة معه، أو من المستفيدين منه، بل صار صوت قطاعات واسعة من أفراد الشعب مسموعاً في نقده للسلطة ولنظام الحكم بسبب ضنك العيش، وعدم توافر مقوماته إلا بأسعار عالية لا تتناسب مع القوة الشرائية المتاحة لديهم. وقد صار صوتهم أكثر علواً في نقده للحكومة بعد الزيادة الأخيرة على الرواتب والمعاشات.

 ومع أن نقد هؤلاء لا يتعدى السباب على الحكومة والمسؤولين، لكنه مرجح أن يتحول إلى نقد سياسي في حال استمر الضغط على مقومات العيش، وهذا مهم جداً كرأسمال يمكن توظيفه سياسياً من قبل المعارضة الوطنية الديمقراطية في أي عملية تغيير مستقبلية.

المشكلة منذ البداية أن النظام اختار الحل العسكري الأمني في قراءة خاطئة لطبيعة الحراك الشعبي متوهماً بأنه يمكن تحقيق نصر ناجز على المجموعات الجهادية المتطرفة التي تدخلت به وقادته وحرفته عن مساره ومطالبه المشروعة بدعم من قوى دولية كثيرة. وأن هذه القوى الخارجية سرعان ما سوف تعيد تقييم مواقفها السياسية، وتنفتح عليه، وتدعمه، وهذا لم يحصل. الذي حصل هو العكس فالدول التي تدخلت في الأزمة السورية عسكرياً لصالح المجموعات الجهادية المتطرفة، استمرت في تدخلها سياسيا واقتصادياً في مناطق نفوذها، وهي تريد ثمناً لهذا التدخل على شكل امتيازات سياسية وأمنية وربما اقتصادية في المستقبل كنتيجة لأي حل سياسي للأزمة السورية. وحتى الدول التي وقفت إلى جانبه عسكرياً صارت تطالب بثمن هذا التدخل على شكل امتيازات سياسية واقتصادية، وحتى عسكرية وأمنية. باختصار صارت جميع الأطراف الدولية في الأزمة السورية تتنافس (بل تتصارع) من أجل تحقيق ثمن تدخلها فيها على شكل مكاسب سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وكل ذلك على حساب مصالح الدولة السورية، ومصالح شعبها. أمام هذا الواقع صار لدى كثير من السوريين من الموالاة والمعارضة قناعة بأن السلطة السورية فاقدة للقدرة على اتخاذ أي قرار وطني مستقل، بسبب هيمنة إيران وروسيا عليها، حالها حال المعارضة الخارجية شريكتها في مسار جنيف التي هي الأخرى لا تملك من زمام أمرها شيئاً بسبب هيمنة الدول الداعمة لها عليها أيضاً.

مشهد سوريا اليوم هو مشهد لوطن مخرب في العمق، ولشعب ممزق الهوية الوطنية، يصعب عكسه في المستقبل المنظور للأسباب الآتية:

1-الجغرافيا السورية ممزقة إلى مناطق نفوذ لدول عديدة ولكل منها مطالبه الخاصة في أي تسوية سياسية محتملة، وهي مطالب لا تتوافق بالضرورة مع مصالح الشعب السوري.

2-بروز الهويات الصغرى على حساب الهوية الوطنية السورية الجامعة.

3-حجم الكارثة الاقتصادية الهائل، إذ تقدر مصادر مختلفة أن الخسائر المباشرة في العمران السوري وفي الطاقات الاقتصادية تزيد عن 400 مليار دولار، وبحاجة لمثلها لإعادة الإعمار، عداك عن تمزيق الروابط الاقتصادية بين مختلف مناطق البلاد.

4-حجم الكارثة الاجتماعية الهائل أيضاً، إذ تسببت الأزمة بمقتل نحو مليون سوري، ولا يقل عن هذا العدد من الجرحى، وبنتيجة ذلك فقدت نحو مليون فرصة زواج، ونحو مليوني طفل خارج المدارس، وسبعين ألف طفل غير شرعي، عداك عن مغادرة نحو نصف سكان البلاد لمواطن عيشهم، سواء في نزوح داخلي أو هجرة خارجية.

5-تفاقم الوضع المعيشي للسوريين في الداخل، من جراء الغلاء الفاحش، والقوة الشرائية المتدنية جداً. بحسب العديد من المصادر، صار نحو 85 % من السوريين يعيشون تحت خط الفقر.

5-إصرار النظام على النهج ذاته في إدارة الدولة والمجتمع، ورفضه لأي حل سياسي وفق المرجعيات الدولية.

6-إفلاس المعارضة شريكة النظام في مسار جنيف، وتحول قسم منها إلى مرتزقة يرسلهم مشغلوهم إلى ساحات القتال في ليبيا وأذربيجان وربما غيرها.

7-عدم انفتاح النظام على المعارضة الوطنية الديمقراطية، والتي هي بدورها لا تزال مشرذمة، ومتنافسة.

إن الحالة التي وصلت إليها سوريا بسبب سياسات النظام والإسلام السياسي وخصوصاً الجهادي المتطرف منه، لا يمكن عكسها إلا بتغيير جذري في بنية النظام السياسي القائم والتحول نحو نظام ديمقراطي علماني لا مركزي. في غير ذلك سوف تظل سوريا معرضة لمخاطر كثيرة قد تكون أسوأ مما تعرضت له خلال السنوات العشر الماضية.