الاصطياد في المياه الأميركية العكرة

منذ قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما في عام 2011 بالانزياح عن الشرق الأوسط والتركيز على الشرق الأقصى هناك اضطراب في علاقة واشنطن مع حلفائها الإقليميين التقليديين في الشرق الأوسط، وقد تجسد هذا أولاً في مخالفة حلفاء لواشنطن قرار أوباما بأعوام 2011 – 2012 بدعم الأصوليين الإسلاميين الإخوانيين في الوصول للسلطة في تونس ومصر ومشاركتها في ليبيا واليمن، وقد أتت هذه المخالفة التي وصلت لسياسات متعارضة مع واشنطن من قبل السعودية والإمارات أثناء دعمهما للانقلاب العسكري المصري على حكم الإسلاميين في عام 2013 فيما كان أوباما في الضفة الأخرى، ثم بان هذا الاضطراب بشدة مع توقيع واشنطن على الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 الذي عارضته السعودية والإمارات وإسرائيل وهي دول ثلاث لم تخفِ غبطتها البالغة عندما انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018 ولم تخفِ قلقها في عام 2021 من اتجاه الرئيس بايدن للتفاوض مع إيران للعودة إلى ذلك الاتفاق. ظهر ثالث أعراض هذا الاضطراب عندما لم تؤيد واشنطن الحرب التي قادتها السعودية ضمن تحالف عربي ضد الحوثيين في اليمن عام 2015، وظهر رابعه في عام 2016 عندما كانت السعودية ضد التسوية اللبنانية التي أتت بميشال عون رئيساً في قصر بعبدا برعاية أميركية- إيرانية وكانت هذه التسوية قد حصلت قبل أيام من انتخاب ترامب الذي تابع اتجاه التركيز على الشرق الأقصى ولكن أراد ترفيقه باتجاه المجابهة مع إيران بخلاف أوباما الذي كان اتجاهه الانسحابي من المنطقة  على ما يبدو يتمثل ركنه الرئيسي في اتفاق أميركي- إيراني وهو ما نرى الآن متابعة له من بايدن. كان خامس هذه الأعراض في ليبيا، عندما وقف حلفاء واشنطن، من مصر إلى السعودية والإمارات، مع اللواء خليفة حفتر في الشرق فيما وقفت واشنطن مع حكومة فايز السراج في الغرب المدعومة من تركية والإسلاميين، وكان سادس هذه الأعراض مؤخراً في نهاية الشهر الماضي عندما وقفت واشنطن ضد الانقلاب العسكري في السودان فيما وقفت مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل معه، ويمكن إضافة عرض سابع متمثلاً في مهاجمة بايدن للسعودية على رفع أسعار النفط ورفضها زيادة الإنتاج واضعاً الرياض في خانة واحدة مع موسكو تجاه الموضوع.

هنا، يمكن القول بأن ما سبق ذكره أعلاه في هذا النص يمثل أهم ما حدث في منطقة الشرق الأوسط خلال العشر سنوات الماضية وهو ما رسم الملامح الأساسية للخريطة الجغرا – سياسية للمنطقة. يبدو أن ما أثار الاضطراب أولاً عند الحلفاء التقليديين لواشنطن هو اتجاه أوباما أثناء بدء رسم اتجاهه الانسحابي من المنطقة إلى التخلي عن الديكتاتوريات العسكرية الحليفة للمنطقة، مثل زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلى عبدالله صالح، واستبدالهم بمنظومة إقليمية جديدة من الأصولية الإسلامية بفرعيها السني والشيعي بكل ما يعنيه ذلك من تعويم أميركي للنموذج الإيراني الخميني- الخامنئي في العراق وغض النظر عند أوباما وإدارته عن قوة حزب الله في الساحة اللبنانية منذ 7 أيار 2008 وتعويم أميركي للنموذج التركي الأردوغاني- الإخواني في دول عديدة، وهو ما أنتج حركة مضادة في الخليج رأينا مفاعيلها في حرب ساخنة عمرها الآن ما يقرب من عشر سنوات تشنها الرياض وأبوظبي ضد الأصولية الإسلامية بطبعتيها السنية والشيعية وهي حرب تمتد رقعتها الجغرافية من كابل إلى الدار البيضاء ومن اسطنبول إلى مقديشو. كان وصول (الإخوان المسلمين) للسلطة في القاهرة، ومنظر السفيرة الأميركية في مصر وهي جالسة مع مرشد الجماعة في المقر العام بالمقطم، مثيراً للقشعريرة في الرياض وأبوظبي والأرجح في أماكن كثيرة، ولكن أكثر ما أثار الحلفاء التقليديين لواشنطن هو الاتفاق النووي مع إيران. أنشأ هذين الحدثين الكثير من المياه العكرة بين واشنطن وحلفائها بالمنطقة، كما أن عودة بايدن للتوجه نحو إحياء الاتفاق النووي مع إيران قد أنتج مياهاً عكرة جديدة. في الجانب الآخر من المقلب، كان تخلي أوباما بالنصف الثاني من عام 2013 عن الزواج مع الأصولية الإسلامية الإخوانية قد أثار الكثير من المياه الأميركية العكرة بوجه أردوغان.

هذا الوضع الأميركي المضطرب مع الحلفاء قد دفع  روسيا للاصطياد في المياه العكرة الأميركية، وهو ما رأيناه في تقاربات روسية مع الرياض وأبوظبي منذ صيف 2015، وكذلك تعززت العلاقات الروسية- الإسرائيلية، كما أن روسيا كانت أقرب إلى مصر والسعودية والإمارات في المسألة الليبية  من أميركا. كانت السمكة الكبرى التي كسبتها موسكو هي تركية التي كان توتر علاقاتها مع واشنطن مؤدياً إلى علاقات وثيقة وقوية بين الروس والأتراك منذ 2016 لم تستطع أن تقيم موسكو علاقات مماثلة في قوتها مع أي عضو في حلف الأطلسي منذ نشوئه في عام 1949 نتيجة توترات هذا العضو مع واشنطن بما فيه ديغول عندما انسحب من الحلف ونشاطاته العسكرية في عام 1966. بالمقابل هناك حلفاء تقليديين لواشنطن مارسوا الصيد في المياه العكرة الأميركية، مثل إسرائيل التي كان تطبيع الإمارات والبحرين معها تعبيراً عن خطوة وقائية من الدولتين بحثاً عن جدار حماية بديل أمام الفوز المتوقع لجو بايدن على دونالد ترامب وذلك قبل ثلاثة أشهر من انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.