الجهل المقدس

حين نصب البابا كليمنت الثامن المحرقة لإعدام الهراطقة عام 1600م سيق إليها كثيرون من المفكرين الأحرار وكان أشهرهم جوردانو برونو، وهو من القادة الدينيين في إيطاليا وقد سبق منه التبشير في اللاهوت، ولكنه فيما بعد أنكر التأويل المادي للجحيم، واعتبر فكرة الجنة والنار فكرة تربوية أخلاقية وليست حقيقة مادية، وأن التعذيب بالنار لا يليق بالله تعالى، ولكن المحكمة الكنسية حاكمته بشدة بتهمة الهرطقة وأصدرت عليه بلا رحمة حكم الموت حرقاً بالنار التي ينكرها!.

لم يكن أمامه إلا أن يقبل الموت بصمت، ولكنه صرخ في النهاية حين أقبلت امرأة عجوز على المحرقة بمنتهى الحماسة وهي تحمل حطبة مشتعلة وحين سألها برونو عن غايتها من ذلك وهي لا تعرفه أجابت بأنها تشارك في الحرب المقدسة ضد الهراطقة!! وكانت آخر كلمة قالها برونو (اللعنة على الجهل المقدس).

ولم تكن هذه العجوز إلا صورة لمجتمع بأسره غارق في الجهل المقدس، وهو يكشف لك عن قوة اللاهوت في تغيير الحقائق، فالشريعة التي جاءت بدعوة الحب والرحمة، تتحول إلى محاكم تفتيش رهيبة تمارس الانتقام الوحشي، ثم تتحول إلى عقيدة حرب وقتال تحشد فيها الجيوش الضارية ويذهب مئات الآلاف من قارة إلى قارة يستبيحون كل أرض يغزونها ويقاتلون في تونس والقسطنطينية والرها وأنطاكية وأرمينيا ومصر، ويعتبرون ذلك كله طريقاً إلى بيت المقدس.

إنه من المحزن بالطبع أن تظهر هذه السلوكيات المتوحشة في التاريخ المسيحي على الرغم من طبيعة الرسالة المسيحية القائمة على مبدأ أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وصلوا لأجل الذين يبغضونكم، وهي الرسالة التي قدمت أحد عشر شهيداً قديساً من التلاميذ الاثني عشر، شهداء وادعين استقبلوا الموت برضا وابتسام دون أن يحملوا سكينة ولا شوكة، وفق منطق الإنجيل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر وإذا أخذ رداءك فأعطه إزارك!.

ويجب القول أن ما تورطت به الكنيسة في العصور الوسطى كان أشد بشاعة مما مارسته فئات إسلامية متشددة، فقد نظر المسلمون من البداية إلى “داعش” عبر مراجعهم المعتبرة في الأزهر ودوائر الفتوى الرسمية على أنها فرقة خارجة في الإسلام، ولا ينتسب إليها فقيه مشهور ذو شأن، فيما كانت جرائم الحروب الصليبية في التاريخ تتم بمباركة مباشرة من رأس الكنيسة وكان يتم تصدير أوامر الحرب على لسان المسيح نفسه، وكان الباباوات أنفسهم يباهون بدعوتهم الصريحة والواضحة لشن الحروب الصليبية التي كان حصادها مئات الآلاف من الأبرياء في محيط المتوسط المنكوب “بداعشية” العصور الوسطى التي كان يقودها البابا باسم الرب، ويأمر بها الملوك والأباطرة وجيوشهم، وحين كان ملك أوروبي يتقاعس في هذه الحروب كان البابا يصدر قرارات الحرم الكنسي الذي يجعله ملعوناً في الدنيا والآخرة، ويدفع الشعب للثورة عليه ونزع الحكم من يده وتشريده في الأرض أو قتله.

لا أدري كيف تقبل الناس في العصور الوسطى هذا التفسير المتوحش للدين، وفي تاريخ فرنسا مائة ملك ولكن الملك الوحيد الذي حظي بلقب الملك القديس هو لويس التاسع، ولم يكن من حسناته الواضحة إلا إصراره الكبير على خوض الحرب المقدسة ودخوله إلى مصر على رأس جيش من خمسين ألف مقاتل يهلكون الحرث والنسل في مصر استعداداً لدخول بيت المقدس تحت راية الصليب وباسم الرب ودفاعاً عن قيم المسيحية، ومع أن الصليب هو رمز الفداء والمحبة فقد جعل منه الصليبيون رمز الحرب والموت في تناقض صارخ وحدي مع ما يذكره الكتاب المقدس عن روح المحبة والتسامح عند المسيح، الذي عاش في محراب الإيمان والمحبة واعتصم فيه حتى لقاء الله ولم يحمل سيفاً ولا رمحاً ولا خطية.

إنها صورة واضحة لما يمكن أن تمارسه السياسة من توحش وتحويل الجهل والنكوص عن تعاليم الدين نفسه إلى شعائر مقدسة تبذل في سبيلها الأرواح.

وهكذا فإن إعلان الحرب المقدسة التي مارستها الكنيسة في العصور الوسطى لا يمكن وصفه إلا بالجهل المقدس فهو انقلاب كامل على أسس الدين الذي جاء به المسيح، وتقديس للعنف وهو أكثر مبدأ حاربه المسيح وناضل ضده، وفيما كان ينتظر أن يكون السلام هو المقدس فقد تم منح الحرب الصليبية لقب المقدس وصار الدم والموت والقتل هو المقدس.

واليوم يتبع كثير من المسلمين سنن الذين من قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حيث ظهر التيار “الداعشي”، الذي يأمر بقطع الرؤوس وحرق الأكباد والتنكيل بالناس، ونفذ القتل حرقاً وغرقاً وخنقاً وركلاً ورصاصاً ورمياً من شاهق، واعتبرت هذه الممارسات جهاداً مقدساً، يستحق ممارسوه نعيم الجنة وحورها العين، ويقوم “الدواعش” حتى اليوم بتفجير المساجد والحسينيات دون خجل، وقتل الأبرياء واعتبار ذلك جهاداً مقدساً مع أنه يقع في مواجهة تامة مع كل قيم الدين الذي جاء رحمة للعالمين.

الجهل المقدس هو اليوم ما مارسه المسلمون منذ القرون الأولى فمع أن رسول الله نادى بالسلم وجاء بآية واضحة بصيرة يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان، فاعتبر الحرب خطوات الشيطان المقيتة واعتبر السلم غاية الرسالات، ولكن ما حصل هو عكس ذلك تماماً، فقد استأنف الخلفاء الحروب الضارية بسبب وبدون سبب، وأوغلوا في تخوم البلاد البعيدة، وجاؤوا إلى قصور الخلفاء بالسلب والجواري وهي ممارسات قبيحة فاجرة لا تتصل بأخلاق ولا دين، ولكن الكهنوت قام بإعلان هذه الممارسات العنيفة حروباً مقدسة، وتم إلقاء القداسة على الحروب الطاحنة التي قام بها المغامرون العسكريون، وتم منحها لقباً شريفاً مقدساً تحت عنوان الفتوحات، ومع أن الخلفاء انتبهوا إلى ذلك وحاكموا المحاربين الطغاة وبالذات قتيبة بن مسلم الباهلي ومحمد بن القاسم، وحكم عليهم بالسجن والموت، وفيما بعد قام عمر بن عبد العزيز بمحاكمة هذه الفتوح وأثبت بغيها وعدوانها، ولكننا فيما بعد مارسنا الجهل المقدس وعدنا لتقديسهم  ومنحناهم ألقاب الفاتحين الأبرار، وتحت هذا العنوان دخلت حروب بغي باطش لا يمكن شرعاً ولا قانوناً تبرير شيء منها وصارت في باب الجهل المقدس.

ومن المدهش أن حروب النبي الكريم نفسها لم تسم فتوحاً، بل غزوات ومعارك، ولم يمنح شرف الفتح إلا لفتح مكة الذي كان تحريراً بلا دماء وصلحاً بلا قتال، ويوم العفو الأعظم ويوم اذهبوا فأنتم الطلقاء، في حين أننا منحنا أشد المحاربين فتكاً وعنفواناً ألقاب المجاهدين والفاتحين، وسميناها بالحروب المقدسة والغزوات والفتوحات المجيدة مع أنها في الجوهر ليست إلا حرباً من الحرب، تحركها السياسة وفيها ما هو عدل وفيها ما هو بغي وظلم.

والعنف المقدس ليس إلا نتيجة طبيعة للجهل المقدس، والكراهية المقدسة، وفي سياق ثقافة الكراهية يتم تقديس البغض في الله لأولئك الذين لا يلتزمون بتفاصيل الشعائر على أنه بغض مقدس، ويتم تقديس العداوة لغير المسلم على أنه عداوة مقدسة، ويكفي أن تتابع اليوم على صفحات التواصل الاجتماعي أي حالة نعي لشخصية عامة، من تلك الشخصيات الرائعة التي نفقدها كل يوم، ومع أن للموت هيبة ورهبة، ومع أن الموت كأس على كل الناس، ولكن روح الشماتة والحقد باتت شائعة عارمة، ومن الممكن أن يتقدم بعض الساخطين في مجلس العزاء بتوزيع اللعنات اللئيمة للراحل لأنه لا يتفق مع أفكارهم في تحريم الموسيقا والغناء مثلاً أو لا يستقيم مع توجهاتهم في السياسة والطائفية، ومن المؤلم أن يغدو الجهل واللؤم والنذالة عملاً مقدساً يتقرب به السفهاء إلى الله تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

مؤلم أن نروي ذلك كله، ولكن لن أدعك تغادر حتى تعود بهذه الجرعة من المحبة تعيد لك الثقة بقيم دينك، التي قدمها الإمام ابن عربي في وجه هذه الدعوات اللئيمة قائلاً: ولن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق!.