من صراع القيم الى صراع الحضارات

بداية لابد من تبرئة الدين الإسلامي من القائمين عليه والمعطلين لعملية تطور المجتمعات الإسلامية منذ القرن الحادي عشر وعلماء الفقه الذين هم قادة طوائف يحظرون أي تفسيرات تحديثية للقرآن الكريم، فأصل الأزمة يكمن بما يعتبر إغلاق باب الاجتهاد وهو أصل الأزمة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، وعلى الرغم من أن الإسلام كان قد شهد في الماضي مراحل مزدهرة من التطور فيما يخص الفكر النقدي، وكان هذا قبل القرن الحادي عشر حين كان العرب مهتمين بتداول ونشر الترجمات العربية للمؤلفين اليونانيين مثل أرسطو (الفكر النقدي).

إغلاق باب الاجتهاد تجسد بمنع أي انتقاد أو أي تفسير تحديثي مغاير لما اتفق عليه، وأصبح مع الوقت التفسير الموروث بذات قيمة النص المقدس، ما منع تطوير منهج التفسير ومنع أي تفاعل حول النص المقدس من قبل الفقهاء الجدد. هؤلاء ملزمون بالتقيد التام وكل رجل دين يحاول الخروج عن الطريق المعبد يواجه صعوبات بالغة فيُهمش أو يُكفّر.

كل هذا أدى الى ظهور أزمات عديدة في المجتمعات المسلمة وكان مصدر تناقضات وصراعات، وهذا في كل مكان حتى في المجتمعات الغربية تلك التي تتعايش فيها الثقافات العديدة مع المسلمين.

فالأزمة من زاوية الغرب تكمن في صعوبة قبول مفهوم العلمانية من قبل المكون الإسلامي في المجتمع الغربي اللاديني. وتطورت فيما بعد الأزمة لتتحول لأزمة تخص مفهوم العلمانية في الغرب وتعريفاتها المختلفة.

في الواقع، أصبح هناك ما يستدعي فتح باب النقاش العلني والإعلامي حول العلمانية والإسلام، وكذلك طرح مختلف التعاريف الممكنة للعلمانية في العالم الديمقراطي الغربي.

الواقع الفرنسي الجديد على سبيل المثال بات يحتاج إلى تحديث التعريف الفرنسي للعلمانية لدى الشعب وترسيخها لكي تتم مواجهة التحديات التي تطرحها ضرورة التعايش ما بين المكون المسلم الفرنسي والمكونات الأخرى للمجتمع الفرنسي.

 وأما عن تعريف العلمانية الحالي وفقاً للنص الرسمي في فرنسا، فهي تقوم على ثلاثة مبادئ: أولها حرية المعتقد وحق التعبير عن القناعات الشخصية في حدود احترام القانون، وثانياً فصل المؤسسات العامة عن المنظمات الدينية، وثالثاً مساواة الجميع أمام القانون بصرف النظر عن القناعات الفكرية أو المعتقدات.

كما تضمن العلمانية للمؤمنين وغير المؤمنين الحق ذاته في حرية التعبير عن قناعاتهم وتضمن لكل فرد الحق في أن يكون له دين والحق في ألا يكون له دين، و كذلك الحق في تغيير الدين أو عدم وجوده حتى (الإلحاد)، وتكفل العلمانية حرية ممارسة الدين وحرية العبادة وكذلك تصون الحريات العامة من تدخل الأديان، وتصون الأديان، إنها تحمي حرية الفرد وتحميه من أن يفرض عليه أحد معتقدات وواجبات تحت ذريعة الدين.

وباختصار فإن العلمانية على الطريقة الفرنسية تتسم بحذر من الأديان، ولها تاريخ في المفهوم العام يكاد يصنف براديكالي، فأي شخص لديه لحية أو أي سيدة ترتدي حجاباً يمكن أن يفهم وفق الصورة النمطية، والفكرة العامة عن التطرف في الغرب لا تمييز أحياناً كثيرة بين المتدين المؤمن والمتطرف الذي يرتكب أعمالاً إرهابية.

وللأسف ازدادت حساسية المجتمع الغربي تجاه المسلمين بعد ظهور تنظيم “داعش” وأصبح هناك عداء ضدهم بدرجات متفاوتة.

فما هي أسباب العداء للدين الإسلامي؟ هذا ما يتمنى فهمه المسلمون الفرنسيون الذين يعيشون في الغرب.

هناك ضعف في توضيح القيم الإنسانية التي تبرر الحرب على إرهاب “داعش”، أن تكافح أوروبا الإرهاب هذا مفهوم ويبدو من البديهيات، لكن هناك حاجة ماسة لتوضيح مجموعة القيم التي يجتمع عليها المتحالفون في الحرب ضد “داعش”.

أليست الحرب على “داعش” مبنية على كون القيم الإنسانية الغربية ترفض قيم التنظيم الظالمة لكونها معادية للسلام وحقوق الانسان والمرأة؟ أليست المساواة بين البشر هي في عمق العلمانية؟

و لكن الغربيين ليسوا الوحيدين الذين يقودون هذه الحرب ضد “داعش” أو الإرهاب والتطرف، ولا بد من توضيح نقطة مهمة وهي أن حلفاء الغرب في الحرب ضد التطرف هم ليسوا جميعاً علمانيين وديمقراطيين، فبعضهم بعيد عن القيم التي يحارب الحلفاء من أجلها.

وفيما يخص الحرب المعلنة ضد الإرهاب، أثبت الواقع أن كل طرف ممن يحاربون “داعش” يقود حربه الخاصة لأسبابه الخاصة، وبالتالي لا بد أن نقر أننا في هذه الحرب نواجه معضلة الإبهام وعدم الوضوح.

هذا التناقض في القيم بين الحلفاء بالحرب على الإرهاب غير مقبول بالمطلق، لأن هذا المجتمع الدولي يقود حرباً مكلفة على جميع الأصعدة، وبالتالي هو بحاجة بالتحديد لتلك القيم الإنسانية لمواجهة “داعش” أو على الأقل لتبرير هذه الحرب أخلاقياً.

ومما لا شك فيه أن في عمق الصراع مع “داعش” يوجد صراع فكري بين القيم الإنسانية، صراع بين ثقافتين وتحول هذا الصراع الفكري إلى حرب في مرحلة تالية وليس العكس.

متى حدث هذا التحول من صراع القيم الفكرية إلى الحرب الحقيقية وكيف تم؟

يحاول السياسيون الغربيون تجنب الحديث أو الخوض في غمار هذا الصراع القيمي العميق ما بين رؤيتين متناقضتين للعالم، لأن المسألة حساسة ومعقدة، و يحاولون إعلامياً تسويق صورة لمعركة تجري على أساس مبسط، يتم فيها استعمال العنف المفرط بعبثية.

و لكن في النهاية لا بد من مخرج ما من مأزق العنف والعبثية المدمرة، ولا بد من مخرج من دوامة العنف، أي لا بد من تغيير هذا المسار العنيف نحو مسار حوار منهجي.

 وهذا بمشاركة إعلامية عامة وغير مشروطة للسلطات الدينية الإسلامية العليا وفقهاء المجتمعات الإسلامية، بغض النظر عما إذا كانت متحالفة في المعركة ضد “داعش” أم لا، وحتى في حال غياب التسلسل الهرمي الإسلامي لدى بعض المذاهب والطوائف الإسلامية كالسنة مثلًا .

وإن إقامة مثل تلك الحوارات التي تعتبر محظورة اليوم في العالم الإسلامي من جهة المجتمع والسلطة الدينية والفقهاء، سيجبر الأطراف المختلفة على اتخاذ مواقف أكثر وضوحاً من التطرف والإرهاب وسيكون من شأنه مساعدتهم على بلورة قرارات أكثر جرأة وسيؤدي بالنهاية الى تحميلهم مسؤولياتهم الأخلاقية أمام الرأي العام في مسائل القانون.

 وسيجر النقاش العام الأطراف للخوض علناً في المسائل الحساسة التي يؤثر علماء الإسلام تجنب الخوض فيها، ومن المؤكد أن مثل تلك الحوارات لا يمكن أن تجري إلا في البلدان الديمقراطية التي تتمتع بهامش كبير من حرية التعبير دون حظر أو حواجز تكفيرية، ربما فقط مع اشتراط توفر المعرفة الدقيقة بالعلوم الإسلامية والقيم العالمية لحقوق الإنسان لدى طرفي الحوار، وهذا بهدف إعادة مجتمعات محلية بأسرها إلى واقعها الذي أبعدت عنه سياسياً والذي هو في أساسه غني بالقيم ويعد إطاراً وافياً في المجتمع الغربي اللاديني.