مدى قابلية النظام السوري للإصلاح

يلاحظ المراقب للشأن السوري، منذ بدء التحولات الديمقراطية الكبرى، فيما كان يسمى بالبلدان الاشتراكية السابقة، في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي، وما تلاها من انتقال لعدوى التغيير إلى جميع مناطق العالم تقريباً، ما كان منها قد نسج نظامه على المنوال السوفييتي، أو ما كان منها من دكتاتوريات جاءت بها أميركا في سياق الحرب الباردة، أن المنطقة العربية عموما، وسوريا على وجه الخصوص، قد بقيت في منأى عنها إلى حد كبير. ورغم الوضع الدولي الضاغط بعد الحادي عشر من أيلول، والاستراتيجية الأميركية المعلنة للتدخل، وانطلاق ما سمي بالربيع العربي، ظل النظام السوري يراهن على مناعته. غير أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تأخذ بتلابيب الدولة والمجتمع والناس جميعاً في سوريا جعل المهتمين بالشأن السوري يتساءلون عن مدى استمرار النظام السوري في الممانعة تجاه استحقاقات الإصلاح الضرورية والعميقة وفي مقدمتها الإصلاح السياسي. ويبدو لي أن مقاربة الأجوبة المحتملة لمثل هذه التساؤلات، لا بد لها أن تبدأ بالإجابة عن السؤال المركزي المتعلق بطبيعة السلطة في سوريا، وممكنات انفتاحها على العصر.

تعد مرحلة حافظ الأسد مرحلة جديدة نوعياً في سوريا. لقد كان واضحا للحكام الجدد، ومنذ البداية، أن استمرارهم في السلطة يتوقف على مدى نجاحهم في أربعة مجالات على الأقل: من جهة، كان لا بد من إخراج الأجهزة العسكرية  والأمنية من دائرة الفعل السياسي. ومن جهة ثانية، كان لا بد من القضاء على الروح السياسية في حزب البعث، وفي غيره من الأحزاب. ومن جهة ثالثة كان لا بد من نزع السياسة من المجتمع، وتقديم كل ذلك في إطار أيديولوجي، وسياسي مناسب. أما المجال الرابع فهو الدور الوظيفي الذي يؤديه النظام في الإقليم.

في المجال الأول عمدت السلطة إلى تضخيم الجهاز العسكري بحجة المجابهة مع إسرائيل، وربطه بها عبر شبكة من العلاقات التوازنية في داخله، بحيث تلتقي خيوطها جميعها في قبضة واحدة. وعمدت أيضا إلى فتح شهية الصف الأول من الضباط على الثراء بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة، وانتقال ذلك بالعدوى إلى مستويات أخرى، وبذلك زادت من ولائهم لها من خلال المصالح الاقتصادية.

أما في المجال الثاني، فقد عمدت السلطة إلى تحويل حزب البعث إلى مجرد جهاز من أجهزة السلطة، فقضت على روحه السياسية، وعمدت إلى تضخيمه كثيراً، ونمت في صفوفه روح الانتهازية، المستندة بالأساس إلى العلاقات والروابط الشخصانية ذات المرجعية الأمنية.

وفي المجال الثالث عمدت السلطة، وبدهاء يسجل لها، إلى القضاء على الحياة السياسية في المجتمع، من جهة عبر ربط مجموعة من الأحزاب بها، من خلال ما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية، بعد أن أرغمتها عمليًا على الموافقة على تجفيف منابعها، من خلال حرمانها من العمل في أوساط الطلبة. ولم تكتف بذلك، بل عمدت إلى تخريبها من الداخل بتنمية الميول الانتهازية في صفوفها، وفتح شهية قياداتها على الثراء غير المشروع، والامتيازات السلطوية المختلفة.

ومن جهة ثانية، عبر إلغاء أي حياة نقابية حقيقية، من خلال ربط جميع النقابات والتنظيمات المدنية والأهلية بالسلطة، بل تكليفها بأدوار أمنية عديدة كل في مجاله.

ومن جهة ثالثة، عبر قمع القوى السياسية المعارضة لنهجها، بل لكل رأي لا يروق لها. ولهذا الغرض فقد بنت أجهزة أمنية عديدة، وأعدتها للقيام بهذا الدور بكفاءة، وزودتها بكل ما تحتاجه مادياً ومعنوياً، وحمتها من أي مساءلة قانونية، بل صارت هي القانون، وهي فوقه في ذات الوقت.

وفي المجال الرابع ربط النظام وجوده بمصالح دولية وإقليمية يؤديها في مقابل الدفاع عنه وقد اختبر ذلك بنجاح خلال الأزمة الحالية.

بتكثيف، يمكن القول أن الدولة السورية بأجهزتها المختلفة، والمجتمع بصورة أعم تخضع جميعها لهيمنة مطلقة لسلطة أمنية قل نظيرها، هي مزيج من الأوليغاركية الأمنية والاقتصادية، حولت المجتمع إلى خواء، يملأه الخوف، والسلبية، تديره بالفساد وآلياته. في هكذا مجتمع، يفتقر إلى الحياة السياسية الطبيعية، ناسه مجرد رعايا، يلهثون وراء لقمة العيش، ينتظرون مكرمة من هنا، أو حسنة من هناك، بهذه المناسبة أو تلك. مجتمع، هذا هو حاله، لا يمكنه أن يولد قوى تغيير حقيقية، وفاعلة من داخله. في هكذا وضعية كان من الطبيعي والمنطقي أن يبرز الخارج، كقوة حاسمة، لتحفيز التغيير في الداخل، وهو يحفزه فعلاً.

ويبقى السؤال، إلى متى سوف تظل السلطة في سوريا تقاوم التغيير ومتطلباته؟ الم تستنفذ جزءا كبيراً من قدرتها على الممانعة؟ بعد أن أنهكتها الصراعات الداخلية والأزمة الاقتصادية التي تعصف بالكيان المجتمعي. إن تاريخ الأوليغاركيات في العالم يقدم جواباً واحداً يرتكز، في الغالب الأعم، على الدور الحاسم للخارج، ويأخذ إحدى صورتين: إما انكسار حاد بتدخل خارجي حاسم، أو انكسار داخلي يدعمه الخارج. وفي كلتا الحالتين قد يكون الثمن المجتمعي باهظاً في المدى القريب، لكنه يقل مع التقدم في بناء النظام البديل. ذلك يتوقف على طبيعة العملية التي تلي الانكسار ومطالب الخارج والتوازنات الداخلية.