الدين والتخلف

إذا سألت أي مواطن عربي – مسلم عن أجمل الأيام التي عاشها سيجيبك فوراً وبشكل ببغاوي (أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد)، ولكن عقله وعيناه شاخصتان بشوق نوستالجي إلى تلك الأيام التي عاشها أجداده أيام الدولة الإسلامية (أيام كان الأجداد قريبين إلى دينهم) فيما نعاني اليوم بعداً عن الدين، ولذلك نعاني كل هذا التمزق والضعف والتخلف، والحقيقة أن في هذه الشعارات التي يطرحها الإسلام السياسي ظلماً كبيراً للدين، فليس من العدل أن ننسب كل هذا التخلف إلى مقدار اقترابنا من الدين أو ابتعادنا عنه، وبذلك يتحمل الدين بهذا القدر أو ذاك قسطاً من الأسباب. إن انتشار مثل هذه الأفكار يهدف فقط إلى حرفنا عن الأسباب الحقيقية لهذا الضعف والتخلف وهو الأنظمة الديكتاتورية والسلطات التي تسعى جاهدة إلى إبقاء شعوبها بين فكي التخلف والضعف لتلوكه أسنان التمزق والمهانة.

في عصر الخلفاء الراشدين لم يكن ممكناً إقامة دولة مزدهرة كما يروج البعض، فتلك المرحلة مطبوعة بالحروب الداخلية والخارجية، ومن البديهي أن المجتمعات التي تعيش حروباً وتوترات لا يمكن أن تخلق ازدهاراً، ولكن المواطن العربي – المسلم يخلق في مخيلته صورة ذهبية للازدهار قائمة على القوة والقدرة على ارتكاب العنف بسبب الضعف الذي يعيشه اليوم هذا المواطن، فتلكم الحقبة شهدت حروب الردة، وهي حرب أهلية في شبه الجزيرة العربية، حرب أهلية كاملة الأوصاف، كما استكمل الخليفة عمر بن الخطاب الفتوحات واستمرت الجيوش العربية في تحقيق الانتصارات على الروم والفرس، ما خلق في أذهان القارئ اليوم لتلك المرحلة صورة تتسم بخصائص الحضارة والازدهار، علماً أن الازدهار والحضارة يحتاجان إلى استقرار وتوسع تجاري وانتشار للعلم وتوسع للمدن ونشاط اقتصادي، وهذا لم نسمع عنه في تلك الحقبة، وكل الأخبار التي وصلتنا هي أخبار الاقتتال الداخلي (مقتل عمر بن الخطاب – الثورة على عثمان – حروب علي وعائشة – حروب علي ومعاوية – حروب الخوارج مع الجميع).

بعض الدارسين يمد في عمر الازدهار إلى الدولة العباسية وخاصة عهد المأمون الذي شهد نهضة حضارية حقيقية ولكنها لم تكن بسبب الدين بعداً أو قرباً وإنما بسبب استقرار الدولة وتراكم الرساميل والنشاط التجاري الواسع بسبب حالة الأمن والأمان (الاستقرار) ودخول شعوب كثيرة في جسد الدولة العربية كالفرس والروم والأمازيغ وغيرهم ومساهماتهم في تحقيق النهوض الحضاري الذي قام أساساً وفي البداية على ترجمة تراث الأوائل، ويقصدون بالأوائل شعوب اليونان والروم والفرس ونسخ شكل الدولة عن تلك الدول، خاصة وأن عرب شبه الجزيرة لم يعرفوا شكل الدولة إلا في نطاقات مدنية ضيقة جداً وهي بدورها كانت منسوخة عن تجارب شعوب وأقوام مجاورة. إذاً حين أراد رأس السلطة (الخليفة المأمون) إحداث نهضة علمية كان له ذلك ونجح في خلق ظروف مواتية لنهضة حضارية يقول الكثير من الباحثين أنها أطالت في عمر الدولة العباسية مائة عام على الأقل.

المسألة تحتاج إلى سلطة تمتلك الرغبة في النهوض، وهذه ليست متوفرة ولم تتوفر خلال مئات السنين الماضية، ولا يبدو أنها ستتوفر في المدى القريب المنظور، وربما يلومنا أحدهم فيقول إن النهضة تبدأ من المجتمع، ولكننا نقول إنها تحتاج أيضاً إلى سلطة تؤمن بالديمقراطية وحرية الرأي، غير أن التحالف القائم بين رجال الدين والسلطة وعصاباتها والذي يهدف إلى إبقاء الشعوب ضمن دائرة عبادة الديكتاتور وتمجيد الماضي وعدم التفكير في المستقبل والنظر إلى الحياة على أنها دار عبور وما على الإنسان إلا الصلاة والعبادة والصمت عن الظلم المؤقت في الحياة، كل هذه الأفكار تنشرها الأنظمة بتعاون وثيق مع رجال الدين في حين يتم قمع أي فكرة تحررية حقيقة وقتل كل فكر نهضوي حقيقي.

نحن متخلفون بقرارت الأنظمة ورجال دينها الحارسين لمصالحهم ومصالح السلطة باسم الدين، ونحن لسنا متخلفون بسبب الدين بل بسبب تجار الدين المتحالفين مع السلطات الديكتاتورية القمعية.