أوقفوا قطيع الارتزاق

تتواتر الأنباء عن حشد جموع من المرتزقة الذين قاتلوا في ليبيا وأذربيجان إلى الشمال السوري للمشاركة في عمليات حربية لصالح الأمن الوطني التركي كما يراها الحزب الحاكم.

شهدت السنوات العشر المريرة كثيراً من الأخبار والتطورات، ورويت فيها مآسي مريرة، واعتاد السوري على سماع أخبار الموت والأسى والشراد واللجوء، وباتت التغريبة السورية أشد التراث المأساوي في الأرض وأغزره وأوسعه وباتت مصدراً لمئات الأعمال الدرامية الكئيبة والروايات المؤلمة.

ولكن أشد ما سجل في هذه الدراما السوداء هو ظاهرة الارتزاق… أن يتحول المقاتل الذي قدم نفسه للناس أنه ثائر الحرية والإيمان والكفاح والجهاد إلى مرتزق يبتغي المال ويؤجر البندقية ويضرب في كل اتجاه لقاء مال معلوم.

وليست الكارثة أن المحارب هنا يتورط في الدم، ولكن الكارثة أن يتورط في حرب لا يؤمن بها وهي ليست حربه ولا معاناته ولا مقصده، ويحارب قوماً ما له عندهم مظلمة ولا ثأر، وهم عانوا كما عانى وتشردوا من قبل كما تشرد، ومع أنهم يزرعون له ركاماً من الأهداف الجهادية في هذه الحرب، ولكنه على يقين حين يخلو بضميره أنه يخوض حرباً بلا أخلاق ولا هدف ولا معنى، ويقاتل ثائرين مثله نهضوا في وجه الظلم، ولكنهم أقعدتهم حظوظهم الرديئة في مكان مصالح الآخرين وبات عليهم أن يدفعوا الثمن وأن يقاتلوا على قاعدة اقتل أو تقتل وهي أفجر القواعد التي أنجبها الاستبداد والظلم والقهر.

حين ذهب ببندقيته إلى ليبيا لم يكن له مع الناس ثأر ولا قصاص، ولم يكن يعرف أسماء القادة الذين سيقاتلون تحت رايتهم ولا المقتولين الذين سيسقطون برصاصه، ومع أن تجار الدين زخرفوا له المشهد جهاداً واستبسالاً، ولكن رأى بأم عينيه كيف تشقلبت المواقع خلال أشهر قليلة وتحولت البنادق من جهة إلى جهة ودارت طاحونة الموت في أفق آخر، فلا يدري القاتل لم قتل ولا المقتول لم يقتل، وبقي المرتزق البائس لا يعرف بوصلة يوجه لها البندقية، ولم يعد له من خبرة جهادية ولا نضالية في هذا الحمام الدموي إلا أن ينفذ الأوامر المشبوكة عبر جهازه اللاسلكي اقتل هنا أو اقتل هناك، وفي غير ذلك لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وتوقنون أنكم كنتم مجرمين!.

ولكن الكارثة الأشد بؤساً هي حرب المرتزق في سوريا فهو يعلم بيقين أنه ذاهب إلى المكان الخطأ، وأنه لن يسيء بشوكة إلى الذين شردوه وقصفوا بيته وداره وقتلوا أخته وأمه، بل إنه سيقدم لهم خدمة بالمجان حين يقاتل خصومهم لغير ما سبب ولا غاية إلا حزمة الدولارات التعيسة التي سيترزقها ليطعم أولاده من إثم وحرام!!.

ومع ذلك فإن تجار الموت لم يتوقفوا عن مهمتهم أبداً وهم بالمناسبة رجال أعمال ورجال أديان، يعرف كل واحد شغله، فيقوم الأولون بزخرفة سبيله بالدرهم والدينار، ويقدمون له أفضل الفرص للكسب السريع عبر تسعير الرصاص والقذائف والقنابل، ويطلون عليه بخبرات فاجرة تعتمد نظاماً شيطانياً من الماركتينغ، على قاعدة اقتل اثنين وخذ الثالث مجاناً، اكسب حوريتين وخذ الثالثة مجاناً، فيما يقوم الآخرون باستيراد النص الديني العنيف من أي حرب ورد فيها ليتم تلبيسه على قياس مدير الحرب الجديدة، وكأن الله أنزل القرآن الكريم وفق إرادة العسكر التركي، ولتحقيق طموحه، ومشاريعه في المنطقة، مهما جرفت هذه المشاريع من شعوب بائسة، ومهما أراقت من دماء بريئة!.

ولكن تجار المصحف المتعممين الحافظين لآيات القتال والحرب يكتمون عن عمد وخبث آيات الارتزاق الماحقة التي دمغت بالكفر والنفاق كل أولئك الذين يقاتلون ابتغاء المغانم، والتي صنفت المرتزقة إخواناً للشياطين والأبالسة، يشربون الدم الذي حرمه الله، ويأكل أحدهم لحم أخيه ميتاً فكرهتموه!!.

في القرآن الكريم سور بحالها نزلت في بؤس ارتزاق وشؤمه، وبينت أن هذا الارتزاق الذي مارسه بعض الأعراب في جيش الرسول نفسه لا يجعل جهادهم محموداً ولا ذنبهم مغفوراً، وسيدمغون في تاريخ النبوة بدمغة النفاق والجريمة ولو كانت كل شروط المحدثين تنطبق عليهم كصحابة للرسول نفسه.

سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلك قال الله من قبل.

لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم

استغفر لهم أو لا تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون

إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً.

سورة التوبة وسورة الأحزاب وسورة الفتح وسورة المنافقون هذه السور الأربعة تولت بيان فضائح المرتزقة في القرآن الكريم، وبات من الواقعي تماماً أن القتال في جيش الرسول نفسه إذا كان بلا أهداف عادلة واضحة فإنه لون من الارتزاق الملعون بنص القرآن والسنة، وأن هذا المحارب الذي وقف في جيش الرسول في الصف الأول لن يذكر في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بل سيذكر في طوابير النفاق والغدر والوغادة والارتزاق التي فضحها القرآن الكريم وجلدها بلا هوادة.

ولكن جريمة ارتزاق الثائرين وما يرتبط بها من قتل بغير حق وهو أعظم الكبائر وأشدها فجوراً ولؤماً، ليست أشد العواقب بل إن الأسوأ هو ما سببته من طعنة غادرة في ضمير الثورة السورية، وجعلت الأمم التي وقفت مع هذا الشعب المظلوم تراجع حساباتها وتضرب كفاً بكف، إذ ظهر أنها تدعم مرتزقة محترفين ينتقلون من حرب إلى حرب، وباتوا رصيداً جاهزاً للحروب والمعارك تحت أي عنوان تحت قاعدة: ادفع نقتل، ولا أتصور في حجم صفقات المخدرات والموت وسرقة الأعضاء البشرية أسوأ من هذا.

هي دعوة لهذا المحارب الشايل بندقيته على كتفيه والتائه في الآفاق الكئيبة لمراجعة ضميره، ومحاكمة نفسه قبل الذهاب إلى ساحة القتل، ومن المؤلم أن مراجعة الضمير تتم عبر شريط من المأساة التي يعيشها هذا المحارب فهو يقاتل أيضاً من أجل أهل جائعين، وأم عجوز وزوجة مشردة وأطفال بائسين، ويطوف في خاطره أن إطعام هذه الحواصل الجائعة سيغفر الذنوب جميعاً، وأنه مضطر ومجبور لا يوجد مورد رزق إلا الذهاب إلى هذه المصائر البائسة السوداء، وسيقول في كل معركة إنها آخر أيام المخازي السوداء التي يشارك فيها فهذه الدولارات التي يقبضها تكفيه أن ينجو بأسرته إلى بلد أوروبي يطعمهم ويسقيهم.

ولكن متى كان الظلم حل الظلم؟ ومتى كان المنكوب ينجو من النكبة إذا صار ناكباً للآخرين، فالظلم كماء البحر لا يزداد الشارب له إلا عطشاً، وستجد نفسك كالفأر الذي يلحس مبرد الحديد فيستعذب طعم الدم ولكنه يهلك نفسه من حيث لا يعلم.

يؤمن كل مسلم أن هناك لقاء بين يدي الله، وستفيض الدماء البريئة على درب الحساب بينك وبين الله، وفي كل قطرة دم نفس مظلومة مكلومة، تحاججك عند الله سل هذا لم قتلني في غير مظلمة؟ والأشد والأنكى أنه سيجد مع هذه الدماء المغدورة أطفاله وعياله يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه فيحاججونه عند الله أيضاً، سل هذا لم أطعمنا حراماً ورزقنا آثاماً، إننا كنا نصبر على الجوع ولا نصبر على الظلم والحرام!

يا معاذ…. إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا من حرام!.