مطعم كافالا

لطالما وصف الرئيس التركي أردوغان، رجل الأعمال والناشط السياسي والمدني عثمان كافالا، بأنّه “عدوّه الخاص”، رغم أن الخصومة لا تستقيم بين ناشط غير معروف داخلياً لكنه يحظى باحترام المنظّمات المدنية في داخل وخارج تركيا، ورئيس يمتلك سلطات واسعة وبات يوصف بأنّه أكثر حكّام تركيا “سلطويّة”، فضلاً عن أن المسمّى الوظيفي لأردوغان هو رئيس كل المواطنين ما يحتّم عليه ألّا يصطفي لنفسه أعداء شخصيين، لا سيّما من أبناء بلده، وأن لا يدخل في دورة الانتقام الشخصي والخاص.

متشكّكاً بمن حوله أوّلاً، وبمن يناوئ حكمه تالياً، بدأ أردوغان مرحلته اللاحقة على الانقلاب 2016، فيما كان الغضب يستبد بالرئيس من معارضته الناعمة منذ أحداث حديقة غيزي بارك 2013 والتي كشفت فيما كشفته من فساد منظّم ومن إمكانيات شعبيّة للتصدّي لشبهات الفساد التي طاولت الدائرة المحيطة بالحكومة والحزب الحاكم، بينما كان الحدث الثالث الذي تموضع وسط هذين الحدثين هو صعود حزب الشعوب الديمقراطي عام 2015 وحصوله على ما ينوف عن ستة ملايين صوت و80 مقعداً برلمانياً وهو ما أجج ثورة غضب أردوغان اتجاه صلاح الدين ديمرتاش وعثمان كافالا بوصفهما أبرز قوّتين اعتراضيتين (مدنية وحزبية) ظهرتا على نحو غير متوقّع إلى سفح الأحداث وباتا جزءاً حيويّاً في لعبة تقويض أحلام رئيس الوزراء في امتلاك صلاحيات واسعة.

 ومع التشكيك المتنامي بالدائرة المحيطة، وما تعدّاها من دوائر اجتماعية وإصلاحية خارج قوس السلطة، أعادت تصرّفات أردوغان إلى الأذهان الشكوك المرضيّة التي نالت من السلطان عبدالحميد الثاني واستبدّت بتصرفاته وانقضاضه لاحقاً على الأصوات الإصلاحيّة والقوى الاجتماعية والسياسية الساعية إلى التفاهم مع أوروبا وقتذاك، وما استصحبه من تهديدات متواصلة وتعالٍ مفتعل كان يطبع علاقة عبدالحميد بممثلي الدول الأوروبية في إسطنبول، ولعل الغضب المفتعل الذي يبديه أردوغان لجهة إعلانه الأخير طرد سفراء عشرة دول بينهم سفير الولايات المتحدة يذكّر بالجوّ المسرحيّ الذي دمغ سابقاً مرحلة هوان وضعف حكم عبدالحميد، وهو يعكس حالياً أزمة حقيقية تواجه حكم أردوغان ورغبته في صرف أنظار الأتراك عن فشل سياساته الاقتصادية وانخفاض قيمة الليرة التركية، وبذا يصبح كافالا الرجل الستينيّ المعتقل منذ أربع سنوات وبوصفه واحداً من أبرز وجوه التشبيك بين المجتمع المدني التركي ونظيره الأوروبي ممثّلاً للمؤامرة الغربيّة، وهذا ما رشّحه لأن يصبح العدو الأثير لأردوغان، ويزيد من حظوظ اختياره عدوّاً دعمه المفتوح لتوطيد العلاقة الكردية والتركية والأرمنية من منظورٍ تقدّمي وإنساني، وأمّا انخراطه في أنشطة رعاية ترميم الآثار الأرمنية في جنوب شرقي البلاد فهي تزيد من حنق وغضب حلفاء أردوغان، تحديداً الجماعات الفاشية وقوى إنكار الإبادة الأرمنية.

إعلان طرد سفراء مجموعة العشرة التي سطّرت بيانها المؤيّد لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية على اعتبار أن تركيا عضو في مجلس أوروبا، وهي في باب ما ملزمة بالرد على قرارات المحكمة الأوروبية أفضى إلى اتخاذ القرار الهستيري بطرد السفراء ما أسفر إلى البحث عن مخرج قدّمته المادة 41 من ميثاق فيينا للعلاقات الدبلوماسية، التي تمنع التدخّل في الشؤون الداخلية للدولة المضيفة، غير أن ما بثّته وسائل الإعلام التركية الموالية لجهة تصوير التزام دول المجموعة وخاصة الولايات المتحدة بميثاق فيينا بأنه “انتصار” يكذّبه عدم عدول هذه الدول عن المطالبة بالإفراج عن كافالا، وأن أردوغان أصدر توضيحاً علمت به واشنطن طبقاً لما قاله نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأميركية الذي أكّد أن بلاده ستواصل “الدفع باتجاه تعزيز سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان” في تركيا، عدول أردوغان عن قراره الغاضب والمتعمّد وربما المسرحيّ جاء وفقاً لما أشاعته تقارير ألمانية عن أنّ وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أقنع رئيسه بإرجاء “الطرد” وثنيه عن التصعيد الدبلوماسي إلى حين انتهاء المشاركة في مناسبتي قمة مجموعة العشرين السبت في روما، ثم مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ في إسكتلندا.

غير أنّ حادثة إعلان الطرد لم تمر دون تعليق من المعارضة، لا سيما ميرال آكشنار المتربّصة أبداً بأردوغان، إذ ألمحت إلى  إصابة الرئيس “بمرض عقلي” وقالت عبر قناة (قرار) التركية أن ما حصل “هو انعكاس المرض العقلي على السياسة الخارجية”. كما أنّ حادثة الطرد لم تمرّ دون أن تلقي بظلالها على الاقتصاد التركي حيث أن الساعات الأولى للإعلان أفضت إلى انخفاض قيمة الليرة مجدداً، بينما توقّع محللون أنه فيما لو استمرّ “إطلاق النار الدبلوماسي” قبل تداركه على هذا النحو المضلل والمرتبك من قبل الحكومة، لكانت أزمة الليرة أسوأ مما هي عليه الآن.

وإذا كان صحيحاً أن قضية كافالا بات لها وجه دوليّ، قبل وبعد مناشدة دول مجموعة العشرة، إلّا أنّها أيضاً تعيد إلى الواجهة إمكانية تطوّر الخلاف بين تركيا وواشنطن على خلفية اعتقاله، مثلما حصل في قضية القس الأميركي أندرو برونسن الذي طاولته تهم دعم الانقلاب الفاشل ونالت منه مكينة التطهير، غير أن الوجه الداخلي لقضية كافالا تبدو أشد قتامة إذ تمتد إلى حيث يصبح الانتقام جزءاً من “سيستم” الحكم، ومنهج الرئيس في التخلّص من الخصوم والقوى والشخصيات المعارضة، وبذا تصبح رواية محرّر الشؤون الدولية في الفايننشال تايمز، ديفيد غاردنر، عن احتفال فوز الشعوب الديمقراطي بالانتخابات البرلمانية عام 2015 في مطعم كافالا باسطنبول، والذي جمع ديمرتاش إلى كافالا هي المقدّمة التي ساهمت في دفع أردوغان إلى “إقناع نفسه” بأن الرجلين كانا يحاولان آنذاك “عرقلة طريقه إلى الرئاسة”، وبذلك اختار أردوغان إيداعهما السجن، وهذا يفسّر جزءاً يسيراً من أحجية اعتقال الرجلين.

بطبيعة الحال تبدأ القصص الكبرى، في كثير من الحالات، من بداية صغيرة، ربما من احتفالٍ في مطعم، وربما من أمورٍ عاديّة أخرى، لكنها تنمو مع الوقت لتصبح النتيجة ما تقوله المعارضة في هذه الغضون وهو أن “أردوغان يدمّر نفسه بنفسه”.