اعتدنا أن تكون الجيوش هي (حماة الديار) وأنها تقدم أرواح أبنائها دفاعاً عن الوطن، ولكن الحقائق دائماً ما تقول عكس ذلك، فالجيش يعتبر أحد أهم مؤسسات القمع التي تملكها السلطة – أية سلطة – ومهمته حماية رأس المال لا الوطن كما يتوهم الكثيرون، فالأدلة في التاريخ كثيرة وجميعها تتفق على أن الجيوش لطالما دبرت طرقاً للهرب (خاصة القادة الكبار) فيما يبقى في المدينة كل من لا يستطيع الهرب أو من لا مصلحة له بالهرب، وغالباً ما يكون أولئك عرضة لانتقام الجيوش الغازية أو الجيوش المنتصرة. لكن الجملة الأشهر التي يوجهها القادة إلى جنودهم (قاتلوا دفاعاً عن بلدكم)، هذا النداء وجهه الفريق دولاعس ماكارثر لجنوده الذين كانوا يقاتلون في كوريا الشمالية في مطلع الخمسينيات رغم أنهم يتواجدون على أرض تبعد عشرة آلاف ميل عن وطنهم (الولايات المتحدة).
هذه الجملة كررها وزير الدفاع التركي مؤخراً أكثر من مرة ورددها كلازمة في جميع خطاباته حين يتعلق الأمر بجنوده المتواجدين في سوريا (نحن نسعى لحماية جنودنا) دون أن يسأل نفسه أو يسأله أحد عن سبب وجود جنوده في بلد آخر، وكيف له أن يحميهم وهم يحتلون بلداً آخر، وما بنطبق على التركي ينطبق على الإيراني وطبعاً الروسي. المهم أن نفهم أن وظيفة الجيوش ليست حماية الأوطان وإنما حماية العروش والأنظمة ورأس المال المتحالف معها.
الأمر ذاته حدث مع الجيش السوري الذي أقنعوه بأنه يدخل إلى لبنان ويحتل بلداً شقيقاً في سبيل الدفاع عن سوريا وفي سبيل القضاء على المؤامرة التي تستهدف القضية الفلسطينية، كمان أن الأمر تكرر في أحداث الثورة السورية حين اقتنع الجيش بأنه يقاتل مؤامرة كونية نصبها العملاء والدول الإمبريالية للإطاحة بمنجزات الوطن والاستيلاء على خيراته، علماً أن هذه الخيرات لا تعود إلا على أصحاب رؤوس الأموال وكبار قادة الجيش والأمن، لم يفهم العسكري السوري أنه يموت دفاعاً عن أموال واستثمارات الآخرين لا دفاعاً عن وطن.
مؤخراً قام الجيش السوداني بانقلاب (تصحيحي) لمسار الديمقراطية في السودان، وأنا لا أفهم كيف يمكن للجيش أن يقوّم الديمقراطية ويصححها، ودعا قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان إلى دعم جهود الجيش والوقوف إلى جانبه دفاعاً عن السودان دون أن يحدد أي سودان يقصد، فهناك سودان القصور وهناك سودان الأكواخ وضحايا الفيضانات والجوع وسوء الإدارة، ومع هذا الانقلاب يمكن أن نلوح بأيدينا مودعين آخر فصول الربيع العربي وإقفال هذا الملف إلى أجل غير مسمى، خاصة بعد الفشل الذي واجهه هذا الربيع في كل الدول التي شهدت ثورات شعبية.
يحدثنا التاريخ عن اكتساح المغول لبغداد عاصمة الخلافة العباسية ولكنه يغفل عن ذكر وجود الجيوش التي كان ينبغي أن تدافع عن الوطن وشرف الوطن ولأجل الوطن، لا يقول لنا التاريخ أين تلاشت جيوش السلاجقة والأتراك الغز والفرس والعجم، بل يكتفي بذكر وحشية المغول والقفز فوق هروب الجيوش التي يفترض أنها مكلفة بالحماية، وفي مطلع القرن الواحد والعشرين سقطت بغداج مرة أخرى أمام دبابتين عبرتا جسراً في بغداد دون أن نسمع رصاصة توجه ضدهما ودون أن نشاهد أي نوع من التواجد العسكري العراقي في المدينة، وهاتان الإشارتان دليل واضح على أن مهمة الجيوش ليست حماية الأوطان بل حماية السلطات والأنظمة، والدليل أنه بموت الملك أو مقتله تنتهي معظم المعارك.
لقد أسس الأتراك جيشهم الانكشاري من أطفال الأسرى وأبناء البلدان التي احتلوها فيأخذونهم بعيداً عن أهلهم وهم مازالوا في سن الطفولة، وتتم تربيتهم على الطاعة العسكرية للقائد فقط فلا انتماء لأولئك الجنود إلا لقادتهم ولعقيدتهم العسكرية، ولقد تم تأسيس هذا الجيش لتوسيع الغزوات التركية في العالم وبالتالي توسيع ممتلكات القادة العسكريين وكبار موظفي الدولة وعلى رأسهم السلطان.