تركيا إذ تستجم في المستنقع السوري

محيّر الموقف العدميّ لأردوغان فيما خصّ رغبته العارمة في تدمير الوجود الكردي في سوريا وتعقّب تطلّعاتهم مهما بدت عاديّة، وقد كان يفترض أن يشكّل احتلاله لكلّ من عفرين ورأس العين/ سرى كانيه العتلة التي تساعده في الحفاظ على شعبيته وقوّة حضور حزبه في الداخل التركي، وأن تجعل منه التدخّلات الحادّة في المنطقة وشرقي المتوسط قوّة احتلال تصنع منه قوّة إقليمية والشرطيّ النشط خلف أسوار الناتو، وهو ما لم يحدث بفعل ما قالته صناديق الانتخابات ونتائج الاستطلاعات.

والمحيّر في هذا النهج الراديكالي المتصاعد والتصرّف وفق سياسة ملئ الفراغات التي تتسبّب بها الحروب الأهلية، أنها لم تمنح الرئيس التركي ذلك الدور والحضور إلا في شكل قلق ومؤقّت، وبحسب المتابع أن يلحظ خسارة الحزب الحاكم الانتخابات في البلديات الكبرى، وتراجع شعبية الحزب إلى أدنى مستواياته منذ أن تسلّم السلطة عام 2002، بل إن الوعد في دولة التنمية والرفاه والعدالة بات أقرب إلى شعارات جوفاء ومواد غير قابلة للتدوير، في حين سكنت قاموس السياسة وخُطبها مفردات الأمن القومي والمصالح القومية والوطن الأزرق وأراضي “الميثاق الملّي” والحرب على “الإرهاب”، وهي مصطلحات التعمية العامة والإلهاء اليومي.

من الواضح أن ذريعة “الغول الكردي” المتواجد على الحدود الجنوبيّة تؤخّر محاسبة الحزب الحاكم على إخفاقاته في “الأزمة السورية” وتؤجّل غضب الشارع التركي إلى حين، بل إن أيّ رفض للعمل العسكري في سوريا، ناهيك عن أن التواجد غير المعلوم فيها، يقابله تخوين واعتبار الرفض والشجب وسيلتين لدعم “العمال الكردستاني” وهكذا تمّ سجن صحفيين ومعارضين رفضوا احتلال عفرين وهي المنطقة الصغيرة التي رفعها الحزب الحاكم إلى مصافي الدولة القويّة العدوّة، وبالتالي غدت الحرب عليها واجباً قوميّاً ودينياً مقدّساً تستلزم تسخير الإعلام وأئمة المساجد التركية خدمة للمجهود الحربي وتجييش مشاعر الجنود وذويهم، ولا غرابة إذاً في سماع برلمانيّ عن حزب العدالة والتنمية وهو يقترح منح لقب “غازي”  لأردوغان إبان نجاحه في احتلال عفرين، فيما كان مصطفى كمال أتاتورك هو آخر من نال اللقب الذي سقط بالتقادم، أو أقلّه سقط من درج الكلام السياسي.

تحافظ تركيا على لياقة مدفعيتها في قصف قرى تل تمر وتدمير منازل المدنيين ودور العبادة والمقابر، وكذا تفعل في تل رفعت، غربي الفرات، حيث تصوّر أنقرة تل رفعت، التي لا تكاد ترى على الخرائط، على أنها صندوق باندورا الذي تنطلق منه الشرور كلّها وأن من الواجب إغلاقه، وبذا تُفاوض روسيا على احتلالها في الوقت الذي يرى مراقبون أن أردوغان لم يعد يملك ما يفاوض عليه الروس، وأن موسكو المتطلّبة لم تعد تطمح إلى استئذان تركيا في حرب هنا وقصف هناك يطال مليشيات المعارضة ومناطق النفوذ التركي.

ما الذي يدفع الأتراك إلى التعايش مع الإذلال الروسي المتواصل وهي الشريكة في مطابخ آستانا وسوتشي، من ذلك صمت أنقرة المطبق عن سقوط ما لا يقل عن مئة جندي تركي بين قتيل وجريح خلال العام الجاري فقط، كان قد سقط معظمهم وأصيب بنيران الروس والنظام، بل إنّ الإعلام التركي الذي يجيّش المشاعر الوطنية عبر إقامة مراسم مهيبة لجنوده الذين يسقطون برصاص العمال الكردستاني، لا يكاد يأتي على ذكر جنوده الذين يقضون على يد الجيش الروسي، وهذه ليست مفارقة بالتأكيد، إنّما هو جوهر النهج الحكوميّ الذي يعتمد سياسة إغماض عين وفتح الأخرى على وسعها.

بكلمات آخرى: الموقف التركي صعب، إذ إن بقاء قواتها، يعني في مكان ما، الاحتكام لشروط الروس والبقاء تحت رحمتهم، فيما يعني الانسحاب هزيمة داخلية في مكانٍ آخر. والحال أن المسعى الأردوغاني الأمثل هو إطالة أمد البقاء ما أمكن ريثما تنتهي تركيا من انتخاباتها عام 2023، وهو وضع مريح لروسيا التي تعرف كيف تطلب أثماناً للبقاء التركي على الأراضي السوريّة.

 يستلزم البقاء على الأراضي السورية، بوصفها مشروع مستنقع آسن للجيش والسياسة التركيين، تنفيذ التعهّد القاسي الذي سطّرته روسيا مع تركيا في أستانا وهو وجوب مكافحة الإرهاب، وهو هنا محاربة هيئة تحرير الشام (النصرة)، ما يعني أن تنفيذ هذا الشرط يستلزم تعاوناً تركياً، كما أن المماطلة التركية تستصحب استعجالاً روسياً مقابلاً، لا تنفع معه ألعاب “القط والفأر” كتغيير تسمية النصرة أو محاولات دمجها مع جماعات أخرى؛ فهذه المحاولات المكشوفة تمثّل تراجعاً ونكثاً للوعود المقطوعة في أستانا.

غير أن الضربات التي توجّهها “سرية أبو بكر الصدّيق” للجيش التركي في إدلب، تشي بغضب هيئة تحرير الشام من الدور التركي الذي يبدو أنه اتجه، أو يكاد يتجه، إلى التخلّي عن الهيئة، فيما تشير الترجيحات إلى عائدية هذه “السرية” للهيئة، وبذا تصبح حركة تركيا متثاقلة على نحو أشد؛ فمن جهة تثقلها الالتزامات مع الروسي ومن جهة أخرى تثقلها الخشية من التورّط في صراع واضح مع هيئة تحرير الشام، في حين أن دروع تركيا البشرية، أي مليشيات “الجيش الوطني” لم يعد لها دور أبعد مما هي عليه بوصفها دروعاً وجهاز عسف وقمع وانتهاكات ولصوصية يوكل إليها تنفيذ الأعمال القذرة.

الاستجمام في المستنقع السوري أيضاً، على ما يحويه من أكلاف ومخاطر، بات رهين القبول الروسي، وهو أمر يعرفه أردوغان حق المعرفة، ولعل أعظم أمنياته هو أن يبقى إلى حين ينتهي من الانتخابات القادمة، فأوضاع الرئيس لم تعد كما كانت، والشارع التركي ليس بوسعه تقبّل رئيس لا يجيد إدارة الملفّات الخارجية بعد أن ألحق الأذى بالمشهد السياسي والاقتصادي الداخلي. ومع تلاشي جل أحلام الرئيس الكبيرة في سوريا أمسى دأب أردوغان الوحيد هو البقاء على الأرض السورية بأقل كلفة ممكنة، هذا إن وافقت روسيا طبعاً.