هي ليست ثورة هي لحم بعجين

حين يقول زياد الرحباني أنه مستعد للعزف في أي محل يدفع له نقوداً ليعيش، وحين يضطر للعمل في الصحافة اليومية وكتابة الزاوية لأجل تحصيل لقمة العيش، فذلك يعني أن الفن العربي وصل إلى القاع الذي لا قاع بعده، ليس لأن زياد ملحن وموسيقار هام وله مكانته الموسيقية على الصعيد العالمي وإنما أيضاً لدوره في المسرح، فمن منا ينسى (فيلم أميركي طويل) أو (بالنسبة لبكرا شو) و(نزل السرور) و(شي فاشل)، والتي تشكل برأيي الشخصي أرقى أنواع المسرح السياسي في تاريخ المسرح العربي على الإطلاق، الوضع المادي الذي وصل إليه زياد يؤكد ما تحدثنا عنه سابقاً من طغيان التفاهة في الثقافة والفن والسياسة ومختلف مناحي الحياة.

كتب زياد وأخرج ومثل دور البطولة في مسرحية (نزل السرور) حين كان في الثامنة عشرة من العمر، وإنه لمن الغرابة أن يمتلك شاب في هذا السن كل ذلك العمق وكل تلك الرؤية المستقبلية لحالة لبنان والحالة العربية عامة، إذ يتوقع زياد برؤية ثاقبة وتحليلية، تثير الدهشة، فشل الثورات العربية بسبب قياداتها التي تبيع الثورة مقابل الجنس والمال، ذلك أن (عباس) الذي اقتحم فندق السرور ليجبر المقيمين فيه على الثورة ضد أوضاعهم المزرية (فلو كانوا يملكون بيوتاً لما اضطروا للعيش في فندق شعبي بسيط وفقير) لديه أختان تعملان في بيع العلكة على إشارات المرور، ووالده مهدد بالموت ولا يجد مشفى يستقبله (الموت وحده اللي بيستقبله)، ولصديقه فهد، ورفيقه في الثورة، قصته أيضاً، فأخوه الأصغر مات في حادث حين دعسته سيارة (كبيرة وبتلمع ونحنا صغار ومغبرين وما نلمع)، كمان أن بيتهم الصغير طار في التنظيم وزال بسبب مرور شارع في الحي، وفي الصباح قرر صاحب العمل فصل كلٍّ من عباس وفهد من العمل لأنهما يحرضان العمال على الإضراب. يطلب فهد من ملحن بسيط يقيم في الفندق أن يضع لحناً للثورة ويطلب من الجميع الانضمام للثورة (ولك هي عيشة هي اللي عايشينها!!).

لكن نزلاء الفندق نجحوا في تقديم رشوة لقائد الثورة (عباس) ووهبوه الفتاة (سوسن)، ابنة صاحبة النزل، وأغروه بالثروة التي ستصبح من نصيبه لأن سوسن الوريثة الوحيدة لوالدتها التي تملك سبعة فنادق مشابهة تدر عليها أرباحا طائلة، وكل ذلك مقابل تأجيل الثورة، تنجح الخطة ويهرب عباس مع سوسن وتتأجل الثورة رغم هروب سوسن من عباس وعودتها إلى النزل وتحذيرها للنزلاء بالهرب فعباس يلحق بها مسلحاً بالقنابل، وحين يصل عباس مع فهد إلى النزل يكتشف أن الجميع قد هرب ما عدا (زكريا)، الذي يمثل دوره زياد الرحباني، والراقصة تحيات، فيأخذ عباس تحيات إلى إحدى الغرف ليدور حوار مؤثر جداً بين زياد وفهد، يطلب فهد من زياد الهرب لكن (زكريا) يرفض ويقول بأنه كان ينتظر هذه الثورة فكيف يتم تأجيلها، يصرخ به فهد محتداً (خلص… كل شي خلص… اهرب)، يصر زياد على البقاء ويقول لفهد (عطيني الرشاش اللي عندك أعطيه لولادي) ثم يختم حواره والمسرحية بجملة غاية في العمق (أنا بعرفه لتاريخنا، ما رح يصحا لياكل كف من برا).

بهذه التفاصيل الدقيقة التي كتبها زياد الرحباني قبل نحو أربعين عاماً رسم تفاصيل ثورتنا وكأنه يراها منذ ذلك التاريخ، فالقيادات باعتنا بالدولار وباعت دماء شهدائنا بمشاريع سياسية بملايين الدولارات، ثورتنا سرقها زعران الأحياء والقرى الذين كانوا من سفلة القوم ثم أصبحوا من سادتها.

في مسرحية (فيلم أميركي طويل) التي تتحدث عن مجموعة نزلاء في مشفى للأمراض العقلية من ضحايا الحرب الأهلية ومن نتائجها، يردد (رشيد)، الذي يلعب دوره زياد، عبارة غريبة (لبنان الجديد لحمة بعجين) ثم مع تطور الحوار نكتشف العلاقة بين ضفتي هذه الجملة، وسوف نأتي على ذكر المسرحية بالتفصيل في العدد القادم.