نقد العقلية البعثية

في حينه مثل إعلان الرئيس بشار الأسد عن “القفزة الكبرى” التي سوف يمثلها مؤتمر حزب البعث القادم، (انعقد في عام 2005) بداية بازار الرهانات حول ما سوف يمثله هذا المؤتمر بالنسبة لسوريا والسوريين. إن أكثر من خمسة عشر سنة مرت على المؤتمر خيبت جميع رهانات الذين قالوا بأن الرئيس سوف يجري تغييرات عميقة على السلطة وعلى نظام الحكم لاعتقاد منهم بأن النظام لم يعد قادراً على الاستمرار بالطريقة السابقة، وأن الاستبداد لم يعد عصيا على التغيير. الذي حصل برهن العكس فالنظام الاستبدادي في سوريا صار أكثر محافظة خصوصاً بعد دستور عام 2012، بل ازداد تحدياً بعد أن تغيرت موازين القوى على الأرض لصالحه بفضل التدخل الروسي المباشر في الصراع العسكري بينه وبين القوى الجهادية المتطرفة، وقد عبر عن ذلك بكل وضوح الرئيس في خطابي الفوز والقسم لتوليه عهدة رابعة في الحكم.

إن الباحث الجاد في تاريخ النظام البعثي في سوريا، لا بد أن يدرك مدى نجاح قيادته بعد عام 1970، في ظروف دولية مواتية، في بناء سلطة أمنية استبدادية، لم تشهد لها سوريا مثيلاً في التاريخ. استخدم في ذلك، وبنجاح كبير، ما يسمى في علم السياسة، بسياسة “الجزرة والعصا”. فمن جهة تم تنمية جميع الغرائز المافيوية، وعلى جميع الصعد، في إطار ما أصبح يعرف بسياسة إفساد الكل للكل. لقد تحولت سياسة الفساد، والإفساد، إلى وسيلة رئيسة في إدارة المجتمع، والتحكم به. لقد صار للوظيفة سعر، وللمنصب سعر، ولتسيير معاملات الناس أسعار وأسعار، إنها الادارة بالفساد.

ومن جهة ثانية تم بناء أجهزة أمنية متعددة، مجهزة بكل ما تحتاجه من إمكانات مادية، ومن كوادر وعناصر، ومن حماية سياسية، وقانونية من أي مساءلة. في مثل هذه الوضعية الفريدة، تم إطلاق يدها في الشأن الداخلي، فعاثت فيه قمعاً، وإرهاباً، لكل رأي مخالف، لكل من لا يرى ما تراه، وخصوصا لكل فعل سياسي، أو غير سياسي، ترى فيه تهديدا لسلطتها، أو لمصالحها. وأكثر من ذلك تحولت هي ذاتها إلى الحزب الحقيقي، والفعلي للسلطة، ملحقة حزب البعث، والأحزاب الأخرى المتحالفة معه بها، يؤدون دور أجهزة من أجهزتها.

في هكذا مناخ تشكلت العقلية البعثية، بعد أن قطعت مع نمط تفكيرها السابق الذي ساد في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي، وما قبلها، بل بعد أن قطعت أيضا مع نمط تفكيرها الذي ساد في مرحلة الستينات. من سمات هذه العقلية أنها محورية التفكير بالسلطة، فهي بالنسبة لها القضية الجوهرية، ووحدة القياس الحاسمة، تضبط علاقاتها مع جميع القوى الداخلية والخارجية. وفي ضوء ذلك تعد نفسها المرجعية الوطنية الوحيدة، تتحدد بالعلاقة معها، مواقف، وسلوكيات الآخرين الوطنية، من غير الوطنية.

العقلية البعثية عقلية غير حوارية، لا تقبل بوجود الآخر، فالآخر، أيا يكن، فهو إما خائن، أو عميل، وأضيف له خلال الأزمة توصيف جديد هو “عدو الشعب”، ومن ثم لا بد من قمعه، ومحاربته.

العقلية البعثية هي عقلية أمنية بامتياز، وبصفتها كذلك، فهي عقلية شكاكة، حتى بحلفائها، بل حتى بأفراد حزبها، فمن ليس معها، فهو إما متآمر، أو عميل.

العقلية البعثية هي عقلية محكومة بثنائيات قطعية، إما مع، وإما ضد، إما وطني، وإما غير وطني، لا تقبل بين الأبيض والأسود بوجود أية فسحة رمادية.

العقلية البعثية هي عقلية ديماغوجية، وبصفتها كذلك، فهي تعيش ازدواجية فعلية، بين القول والفعل، بين الشكل الذي تقدم نفسها فيه، وبين حقيقتها الفعلية.

العقلية البعثية عقلية تبريرية، لا تستطيع التعلم من أخطائها، بل لا تعترف، في الغالب الأعم، بارتكابها أخطاء، وفي الحالات النادرة التي تعترف بها بوقوع أخطاء، فإنها تعزيها إلى الآخرين، أو إلى الظروف.

العقلية البعثية هي عقلية غير قانونية، تخيفها فكرة القانون، وبصفتها كذلك، فهي عقلية غير مؤسساتية، بل جهازية، وثمة فرق كبير بين العقل المؤسساتي، والعقل الجهازي.

وأخيرا، وليس آخرا، العقلية البعثية هي عقلية جامدة، تخيفها الحركة، لأنها تولد أسئلة، تبحث عن أجوبة، تتطلب التغيير.

هذه بعض سمات العقلية البعثية (عقلية السلطة)، كما بدت لي من خلال معايشتي للبعث من الداخل، خلال فترة من حياتي السياسية، أو كما تبدو لي الآن بصورة أوضح، كباحث في الشأن السياسي السوري. السؤال المركزي الذي يطرح نفسه بقوة اليوم هو: كيف يمكن لهذه العقلية أن تتغير، وأن تقود عملية الإصلاح الشامل، والعميق في حاضنتها الجهازية، التي بنتها، ورعتها خلال نحو خمسة عقود خلت؟ بكلام آخر، كيف يمكنها أن تقبل بتحويل سلطتها الأمنية الجهازية إلى سلطة مجتمعية ديمقراطية، بما يعني ذلك من تهديد لفكرة محورية السلطة لديها؟. كيف يمكنها أن تقبل بوجود تعددية سياسية، بما يعني وجود معارضة، وانتخابات حرة، وتداول للسلطة، إلى غير ذلك من متطلبات الدولة الديمقراطية الحديثة. الجواب ببساطة ليس لديها!.