السياسة الخارجية السورية 1976 – 2003

محمد سيد رصاص 

في شهر كانون الثاني 1976 أبلغ وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر السفير الأميركي بدمشق ريتشارد مورفي بأن “يبلغ رئيس الأركان السوري حكمت الشهابي بأملنا بأن يقوم السوريون بما يستطيعون من أجل وقف النار في لبنان وأن يضعوا الأرضية لتسوية سياسية متفق عليها”.

يعلن كيسنجر بهذا التبليغ، الذي يسجله بمذكراته المعنونة بـ”سنوات التجديد” التي تغطي فترة الرئيس جيرارد فورد آب 1974- كانون الثاني1977، عن منعطف جديد في العلاقات الأميركية – السورية من خلال ضوء أخضر أميركي لدمشق بأن تقوم بدور عراب إطفاء الحريق اللبناني وإيجاد تسوية للحرب الأهلية هناك. كان إعطاء كيسنجر الضوء الأخضر لدمشق لا يعني فقط بداية الدور الإقليمي السوري بعد أن كانت “سوريا ملعباً للآخرين” منذ الأربعينيات، وإنما أيضاً استبعاداً أميركياً للقاهرة وبغداد اللتين كانتا نشطتان في دعم كمال جنبلاط – ياسر عرفات ضد المعسكر اليميني المسيحي اللبناني، ولا يمكن عزل ذلك عند كيسنجر عن استغلال الخصومة التقليدية بين النظامين البعثيين في دمشق وبغداد واستغلال خلاف دمشق والقاهرة منذ اتفاقية سيناء في أيلول 1975 التي عقدها الرئيس المصري أنور السادات مع الإسرائيليين. بالتأكيد كان وزير الخارجية الأميركي مدركاً بأن تحرك دمشق نحو التسوية اللبنانية سيصطدم مع الفلسطينيين واليسار اللبناني وهما كانا أوائل عام 1976 في حالة رجحان عسكري يهدد بانقلاب الموازين ضد اليمين المسيحي، وهذا ما حصل مع لقاء الرئيس السوري مع كمال جنبلاط أواخر آذار 1976، كما أنه سيجعل دمشق متصادمة مع موسكو الداعمة لعرفات وجنبلاط إضافة لصدامها مع بغداد والقاهرة. يقول كيسنجر بأنه “في لبنان التقى الأسد مع مصالحنا في عدم ثقته بحلول سعى لها الراديكاليون اليساريون”، حيث كانت دمشق، وتلاقت معها في ذلك واشنطن  والرياض، لا تريد لبناناً يسيطر عليه يساري مثل جنبلاط فيما الحاكم الفعلي في بلاد الأرز سيكون ياسر عرفات، هذا إذا لم تحسب الانعكاسات على كل البلاد العربية لعملية انكسار المسيحيين في لبنان الذي أقامت فرنسا دولته عام 1920 كصيغة خاصة للوجود المسيحي في الشرق. يبدو أن وزير الخارجية الأميركي كان يريد أيضاً، وربما كان هذا هو الهدف الأساسي عنده، إشغال دمشق بلبنان لمنعها من عرقلة خطوات واشنطن مع المصريين من أجل حلول انفرادية مع إسرائيل: “كلما كان الأسد في تنازع مع السوفيات ومنشغل بلبنان، فإن هذا سيخلق وضعاً متوتراً لديه سيجعل إمكانية معارضته لمبادرتنا الموضوعة أقل حدة إلى حد كبير”.

في 22 كانون الثاني 1976، قام السوريون بوساطة نجحت في وقف إطلاق النار في لبنان، ثم أتبعوها بإقناع الرئيس اللبناني سليمان فرنجية بإصدار “الوثيقة الدستورية” في 14 شباط، التي كانت إرهاصاً لاتفاق الطائف عام 1989 من حيث تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح مجلس الوزراء واعتماد مبدأ المناصفة في عدد النواب بين المسيحيين والمسلمين. رفض جنبلاط وعرفات ما طرحه فرنجية، وقد تسبب هذا في القطيعة بين دمشق وكمال جنبلاط إثر لقائه مع الرئيس السوري حافظ الأسد بدمشق في 27 آذار 1976 حيث كان إصرار جنبلاط على الحسم العسكري سبباً في تعجيل التدخل العسكري السوري في 1 حزيران 1976. تصادمت القوات السورية مع الفلسطينيين ومع قوات اليسار اللبناني. توترت العلاقات مع موسكو، فيما كان هناك غطاء أميركي للوجود السوري العسكري في لبنان، ثم أخذت دمشق الغطاء العربي من خلال المؤتمر السداسي في الرياض (16-17 تشرين الأول 1976) الذي تصالح فيه الأسد والسادات.

كان هذا تكريساً لبدء الدور الإقليمي السوري انطلاقاً من أرض لبنان لأول مرة منذ استقلال سوريا في عام 1946. عندما واجهت دمشق تداعيات زيارة الرئيس المصري لإسرائيل (19 تشرين الثاني 1977)، وبدأ الصدام السوري مع اليمين المسيحيي اللبنانيي منذ  حادثة ثكنة الفياضية (7 شباط 1978)  مع بدء التحالف العلني لهم مع تل أبيب، ومن ثم الاجتياح العسكري الإسرائيلي الأول لجنوب لبنان (14 آذار 1978)، فإن وجود دمشق في لبنان كان واقياً دفاعياً أمام تلك الأحداث الانعطافية، التي على الأرجح ما كان ليتم ثانيها وثالثها لولا تلك الزيارة للسادات إلى إسرائيل. كان وجود دمشق  اللبناني مساعداً على تفشيل مفاعلات تحالف اليمين اللبناني المسيحي مع تل أبيب بما فيها، نتيجة الذروة له المتمثلة في انتخاب بشير الجميل رئيساً للبنان (23 آب 1982، اغتيل في 14 أيلول 1982) كنتيجة لبنانية للاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان (6 حزيران 1982)، وفي تفشيل اتفاق 17 أيار 1983 بين لبنان وإسرائيل من خلال هزيمة “القوات اللبنانية” في حرب الجبل (أيلول 1983) وهزيمة الجيش النظامي اللبناني أمام “حركة أمل” في بيروت بيوم 6 شباط 1984، مما دفع السلطة اللبنانية، ممثلة في الرئيس اللبناني أمين الجميل ومجلس النواب، للتخلي عن (اتفاق17أيار) في آذار 1984.

لم يكن لبنان عامل قوة للسلطة السورية على صعيد منطقة الشرق الأوسط فقط، بل كان كذلك في الداخل السوري، حيث قاد الدور الإقليمي السوري إلى تعزيز التوافق السوري مع دول الخليج، وخاصة السعودية، وهو توافق بدأ مع وصول الفريق حافظ الأسد للسلطة بدمشق في يوم 16 تشرين الثاني 1970. قاد هذا إلى تحسين الوضع الاقتصادي السوري من خلال التدفقات الاستثمارية الخليجية، وموارد السياحة التي كان الخليجيون عمادها، وتحويلات العاملين السوريين بالخليج الذين حصلت طفرة في أعدادهم هناك في عقد السبعينيات. كان الوضع الاقتصادي السوري القوي مساعداً للسلطة السورية على مواجهة أحداث حزيران 1979- شباط 1982 لما دخلت في مواجهة مسلحة مع الإسلاميين وفي جعل القاعدة الاجتماعية ضيقة للمعارضة الإسلامية. كان عدم اهتزاز علاقة  الرياض مع دمشق في فترة المواجهة مع الإسلام الأصولي الإخواني عاملاً لا يقدر بثمن للسلطة السورية، في وقت دعم العراق والأردن المعارضة الإسلامية السورية ضد دمشق. يبدو الدور السوري  في لبنان هو السبب في عدم تفضيل الرياض دعم الإسلاميين السوريين ضد السلطة السورية، ويبدو أن نفس الاعتبار كان عند واشنطن، حيث كان يومذاك الأميركان والسعوديون يدعمون الإسلاميين في مكان آخر عقب الغزو السوفياتي لأفغانستان (27 كانون الأول 1979).

كان التفاهم الأميركي- السوري حول لبنان قد وصل إلى أزمة مع تأييد واشنطن للاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وكان ملفتاً طرح الرئيس رونالد ريغان لمشروعه لحل الصراع العربي- الإسرائيلي في 1 أيلول 1982 أي في اليوم التالي لخروج الفلسطينيين من بيروت، والذي على ما يبدو كان الهدف الرئيسي للاجتياح. لم تكن دمشق راضية عن “مشروع ريغان”، وهي كانت متوجسة من اختيار ياسر عرفات مكاناً بديلاً لبيروت غير دمشق، وعملياً فإن عرفات الذي اختار (جواب اللا نعم) على “مشروع ريغان” عام 1983 قد وجد نفسه بعد أشهر أخيرة يواجه انشقاقاً كبيراً في حركة فتح (9 أيار 1983) مدعوماً من دمشق.

لم تعد العلاقات الأميركية – السورية إلى تفاهم شبيه بعام 1976 سوى عام 1990 عقب الدخول العراقي للكويت في 2 آب 1990، حيث كان اشتراك دمشق في التحالف الدولي- العربي ضد العراق مدخلاً إلى إخراج رئيس الحكومة العسكرية ميشال عون من قصر بعبدا عبر القوات السورية بيوم 13 تشرين الأول 1990، وبدء تنفيذ اتفاق الطائف عبر إدارة سورية للبنان بغطاء أميركي- سعودي استمر إلى يوم 2 أيلول 2004 مع صدور القرار الدولي 1559عن مجلس الأمن، وهو ما ترافق مع خلاف دمشق مع رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ومع العاصمة السعودية. كان تفاهم 1990 مدخلاً لدمشق نحو تكيف نظام، كانت علاقاته وثيقة بالاتحاد السوفياتي المهزوم بالحرب الباردة أمام الأميركان، مع منظومة دولية أصبح يسودها القطب الواحد الأميركي للعالم. كان هذا أيضاً طريقاً لنظام يسوده الحزب الواحد، بعد أن سقط ما يشبهه من أنظمة في المنظومة السوفياتية، نحو تفادي استحقاق الديموقراطية، مكتفياً بانفتاح اقتصادي من خلال المرسوم 10 في أيار 1991 باتجاه السير نحو اقتصاد السوق وتقليص قطاع الدولة في الاقتصاد. كان ذهاب دمشق إلى مؤتمر مدريد في تشرين الأول 1991 لبدء محادثات مع إسرائيل لحل الصراع العربي- الإسرائيلي جزءاً من عملية التكيف تلك. حاولت دمشق عبر “إعلان دمشق” في آذار 1991، الذي ضم مصر وسوريا والدول الست لمجلس التعاون الخليجي، أن تأخذ هي والقاهرة دوراً عسكرياً إقليمياً في الخليج كثمن للمشاركة في حرب 1991 ضد العراق، ولكنها ووجهت بالرفض الأميركي الذي منع السعودية والخليجيين من أن يستظلوا بمظلة عربية خارج المظلة الأميركية. على ما يبدو كان ممنوعاً أميركياً أن يكون لدمشق دور إقليمي أبعد من بلاد الأرز.

كما كان العراق جسراً عام 1990 لإعادة التفاهم الأميركي- السوري فإن انكسار هذا التفاهم قد تم عام 2003 من خلال رفض دمشق للغزو الأميركي للعراق. في الحالة الأولى قبضت دمشق ثمن تفاهمها مع واشنطن في بيروت، وفي الحالة الثانية قامت واشنطن بتدفيع السوريين الثمن في لبنان. بدأ الصدام الأميركي- السوري مع زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول لدمشق (2 أيار2003) واجتماعه مع الرئيس السوري، بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد، وكان هناك ثلاثة مطالب أميركية  تتعلق بالعراق ولبنان وفلسطين، باتجاه التكيف السوري وعدم العرقلة للحالة الأميركية في العراق، ووقف تزويد “حزب الله” بالسلاح، وفض علاقة دمشق مع حركتي “حماس” و”الجهاد” في فلسطين.

يمكن القول بأن يوم 2 أيار 2003 هو بداية أزمة الدور الإقليمي السوري كما كان يوم 1 حزيران 1976 بدايته هذا إذا لم نقل بأنه هو بداية أفوله، والأرجح أن الدور الإقليمي السوري لو كان غير مأزوماً في عام 2011 لكان مجرى الأزمة السورية الداخلية قد أخذ شكلاً مختلفاً عن ما جرى بعد درعا 18 آذار 2011 التي مثلت بداية الانفجار السوري.