الحياة هي المقدسة وليس الموت

محمد حبش

شهدت عفرين تفجيراً آثماً في الأسبوع الماضي سقط فيه عشرات القتلى والجرحى، فيما بدأت الأحداث في لبنان وأفغانستان واليمن وليبيا تأخذ منعطفاً خطيراً نحو مزيد من العنف، ولا يبدو المستقبل القريب وردياً بحال من الأحوال، فهل قدر الإنسانية هو الاستمرار في العنف إلى النهاية، وهل فطر ابن آدم على العنف والدم؟ وهل بات السلام حلماً للأغبياء لا نصيب له من الواقع؟.

من المؤلم الاعتراف بأن الحرب قد وضعت بالفعل أوزارها في العالم المتحضر، ولم نسمع منذ 75 عاماً بالتحديد حرباً بين دولتين من الدول المتحضرة بعد أن أيقن الجميع أن الحرب ستجلب الدمار والموت، وتوقفت تلك الجيوش الجبارة عن اجترار الحرب، وأعلنت الأنظمة القوية توبتها عن الحرب، وكان من تمام التوبة أنها ألغت التجنيد الإجباري وتحولت إلى جيوش احترافية لا يكره فيها أحد أحداً على حمل السلاح ولا على الموت والقتال.

الحروب هي فقط شأن هذا الشرق البائس، ومع ذلك فإن الدول الأوروبية والأميركية وجدت نفسها أحياناً في هذه الحروب، فالطغاة يجلبون الغزاة، والشعوب البائسة لديها الجاذبية للاستعمار، وأن دخول الدول الكبرى في هذه الحروب شر لا بد منه، وقد كان زعماؤها في الماضي يرون ذلك ضرورة لهيمنة دولهم وبرامجهم، ولكنهم اليوم باتوا يعلنون على لسان أميركا نفسها أنهم سيخرجون من مناطق النزاع وأن أميركا غير معنية بأي حرب بعد اليوم، وأن كلفة شراء الموارد أقل من كلفة الحرب ولا يخوض الحروب إلا مجنون.

في أفغانستان هرب الأميركيون في مشهد مهين وخسروا تريليون دولار عداً ونقداً كما صرح بايدن، وعشرين سنة من المحاولات البائسة التي منيت بفشل ذريع، وصاروا حديث الأمم ومثار سخريتها ولكنهم في النهاية اختاروا الخروج هرباً أو انهزاماً أو انسحاباً.. لا يهم فالمهم فقط هو أن ننجو بجلودنا ونهرب من مناطق النزاع الحمراء المشتعلة، فالحرب لا تأتي بأي خير.

نعم.. لقد تغير العالم، وبات في أفق جديد، وبلاد الفوهرر ألمانيا وإيطاليا واليابان وبلاد الحلفاء أميركا وبريطانيا وفرنسا وكل من دار في فلكهم أعلنوا توبة نهائية عن الحروب فيما بينهم، بعد نزاع دموي ماحق عصف بتسعين مليوناً في الحربين العالميتين، وتعلم الجميع القاعدة الحاسمة أن الحل بالحرب انتهى إلى غير رجعة وأن انتصارات الحروب ليس إلا حروباً جديدة مؤجلة، وأن النار لا تطفأ النار ولكن الماء يطفئها.

لقد نجحت الدول القوية في وقف الحرب فيما بينها، ونجحت في بناء شبكة من العلاقات والاتفاقيات الدبلوماسية كفيلة بحل أي نزاع، فيما بقي هذا العالم الثالث يغرق في جحيم الحرب، ويلقي على قنابلها وبنادقها وصواريخها ثوب القداسة، ويكرم انتحارييها بصفتهم أبطالاً ومقاومين، ويصر أن يروي الأرض بدم “الشهداء” لتنبت فوقها شعلة الحرية والإيمان.

متى سيقنع هذا الشرقي التائه بأنه لا شرف لقنبلة ولا ضمير لقاتل؟.

لعل أسوأ ما ابتليت به هذه الأمة هو السلاح المقدس، الحرب التي ألقيت عليها قداسة السماء، مع أنها سلوك همجي شيطاني لم تجن منه البشرية على مر التاريخ إلا شئماً ولؤماً.

كتب جبران خليل جبران: ذات يوم لن يصدق أبناؤنا أننا كنا ننادي الناس إلى ساحات الموت لتوهب لهم الحياة، وأن أقرب طريق إلى الحياة هو الموت، وأن الناس كانت تقتُل وتُقتَل من أجل تراب الأوطان!!، وسيدركون أن الكرامة للإنسان وليس للأوطان، وأن التراب ولو كان تراب مكة والقدس ليس أغلى من الإنسان، ولو أن أحدكم هدم الكعبة حجراً حجراً كان أهون على الله من قتل إنسان بريء.

لا أريد ان أبخس التضحية حقها ولكنني حريص أن أواجه التطرف في تقديس الحرب وتحويل الناس إلى مشاريع “شهداء” من أجل غايات سياسية أو دينية، وقناعتي أن ذلك كله مضاد لفطرة الإنسان وغايات الأديان.

لقد وقف الرسول الكريم في معركة بدر وهو ينادي ربه حتى سقط ثوبه عن منكبيه: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، ولم يكن دعاؤه لنصر ولا هزيمة ولا اقتحام ولا إقدام، لقد كان دعاؤه في العمق لحقن الدماء ووقف الحرب والبحث عن سبيل صلح وكرامة، وحين أخبروه أن قريشاً خرجت لقتاله وقد لبست جلود النمور ومعهم العوذ المطافيل يقسمون بالله لا يدخلها عليكم أبداً .. تنهد الرسول الكريم طويلاً وقال: يا ويح قريش.. لقد حمشتهم الحرب، وماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب فإن أصابوني كان الذي يريدون وإن أصبت منهم قاتلوا وبهم قوة… ثم التفت إلى الصحابة وقال: لا تسألني قريش خطة رشد تحقن بها الدماء وتعظم بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها.

لقد غزته قريش وحلفاؤها ثمانية وعشرين مرة، وكان قادراً أن يتصرف كإسكندر عظيم لا يغمد سيفة ولا ينزل عن حصانه، وكان قادراً أن يجعل حتوف خصومه تحت سنابك خيله، ولكنه نجح بحكمة بالغة أن يوقف سعيهم في أربع وعشرين معركة وحول الحرب كلها إلى مصالحات وتحالفات، ولزم حدود المدينة وحفر الخندق حول مدينته وأمر الصحابة بالصمت والاختباء، ولم يكن ذلك جبناً ولا عجزاً ولا خوراً ولكنها إرادة حقيقية في وقف الحرب ومنع إراقة الدماء. 

لقد جرب السوريون المواجهة بالسلاح وها هي عشر سنوات سوداء لئيمة قد انتهت وبدأت عشر أخرى، ولا يزال حمام الدم على أشده فحنفية الموت لا تغلق بعد أن تفتح، والدم يجلب الدم، والثأر ينتج الثأر والإنسان هو الضحية في صراع المجانين هذا.

قد يكون من المؤكد أن المقاومة السلمية لن تحدث تغييراً حقيقياً فعالاً، وأن النظام لا زال مصراً على بطشه وظلمه، ولكنني أتساءل هل استطاع السلاح المجنون أن يفعل؟ لقد التقى السلاح بالسلاح حتى الغاية، ولم يتحقق للإنسان شيء من الآمال التي رفع في سبيلها السلاح، ومع ذلك فإن بارونات الحرب لا زالوا يمارسون دعوة الشباب للإقدام والشهادة ونيل رغائب الحور العين، فيما يعيشون هم خلف الكواليس لا يريدون حوراً ولا عيناً، ولا فراديس ولا فوانيس، بل نزاع مستمر على النفوذ يقوم على جماجم الساذجين. إن قناعتي الراسخة أن حاجة الأمة لمن يعيش في سبيل الله أعظم من حاجتها لمن يموت في سبيل الله.