خارج التحالفين القائمين في تركيا، يقبع حزب الشعوب الديمقراطي منفرداً ومتمركزاً على نحو راديكالي حول القضية الكردية والسعي لإعادة تعريف الجمهورية وفقاً لخطوط التعدّد الإثني والثقافي، مع ما يحمله هذا التمركز من أكلاف على صعيد التحالفات القائمة، وعلى صعيد التضييق على قياداته وكوادره وطرد رؤساء بلدياته، ولعل تمركزه ذاك يحول دون محاولة التحالفين استمالة الحزب الذي وصف بأنه “صانع ملوك” وبأنّه الكتلة الأكثر قدرة على ترجيح الكفّة لصالح أحد التحالفين، الشعب (الجمهور) الحاكم، وتحالف الأمّة المعارض.
غير أنّ خطاب التحالفين لا يكاد يقدّم شيئاً على أساس المبادئ العامة والالتزامات فيما خص السؤال الكرديّ، بل إن رئيس تحالف الشعب، رجب طيّب أردوغان، يصرّ على أن “لا وجود لمشكلة كردية” في الأساس لأنّه قام “بحلّها” وأنّه “انتهى منها”، وقد يكون سجن زعيم الشعوب الديمقراطي، صلاح الدين ديمرتاش، للسنة الرابعة، هو شكل من أشكال حل تلك المشكلة والانتهاء منها. فيما يرى تحالف الأمّة الذي يجمع أحزاب المعارضة، الشعب الجمهوري والصالح والسعادة، بأنّ حل القضية الكردية في البرلمان هو شكل المعالجة الأمثل، رغم ما ينطوي عليه التسويف البرلماني من مكرٍ مكشوف لمجرّبي السياسة، وحتى هواتها.
لم يشفع الانحياز التام الذي أبداه الشعوب الديمقراطي للسلطة المنتخبة ضد المحاولة الانقلابية في 15 يوليو/تموز 2016 في استعادة “عملية الحل” من براثن القوى الخشنة في الدولة ومؤسساتها، بل إنّ الرئيس أثنى على موقف أحزاب المعارضة واستقبلها في القصر الرئاسي، خلا الشعوب الديمقراطي، في حركة حملت معها رغبة في عزل الشعوب وتطويقه، وبطبيعة الحال لن ينسى العدالة والتنمية الشعار الذي رفعه ديمرتاش في مواجهة أردوغان “لن نجعلك رئيساً”، خاصّة وأنّ ديمرتاش مرّ بمختبر هام حين أصبح مسؤول فرع تركيا لمنظمة العفو الدولية (أمنستي) ومؤسسة حقوق الإنسان التركية وقبل ذاك رئيساً لجمعية ديار بكر لحقوق الإنسان عام 2006 قبل أن يتزّعم حزبه عام 2010، ذلك أن تلك المختبرات نقلته إلى مساحات أكثر رحابة عبر التفكير والحديث في شتى شؤون البلاد، لا في المسألة الكردية فحسب، وهو ما جعل أردوغان أكثر التصاقاً بفكرة الإطاحة بديمرتاش عبر إبقائه في السجن، رغم أنّ الاعتقال هنا يعزّز من مكانة الرجل ويضعه في إزاء أوجلان بوصفهما، عنوانين للحوار؛ فالسلام.
في الأثناء يكثّف الجهاز القضائي عمله المتمثّل بشطب الشعوب الديمقراطي وحظره، وهو موضوع وثيق الصلة بالانتخابات القادمة 2023، لا سيّما وأن حملات السجن والتضييق لم تقلّل من حظوظ الحزب في تخطّي عتبة الـ10% البرلمانية، بل إن التحالف الحاكم يسعى لتمرير مشروع قانون تخفيض العتبة إلى 7% لكي يتسنّى لحزب الحركة القومية، شريك العدالة والتنمية وعرّابه في الجيش والمؤسسات الأتاتوركية، دخول البرلمان وفق ما تشير إليه الاستبيانات التي تشير إلى انحدار الحركة القومية في موازاة صعود نظيره حزب الصالح، مسألة حظر الشعوب تهمّ العدالة والتنمية دون سواه من الأحزاب، حيث أن معدل التصويت للشعب الجمهوري بوصفه أكبر أحزاب المعارضة في المناطق الكردية، جنوب شرق تركيا، لم يتجاوز 5% ولا يُتوقع أن يستفاد من أي فراغ يخلّفه حظر الشعوب الديمقراطي، وبذا تصبح مصلحة الجمهوري أكثر التصاقاً بفكرة بقاء الشعوب في مواجهة العدالة والتنمية.
وقريباً من مسألة عزل الشعوب الديمقراطي والإبقاء عليه خارج قوس التحالفات الكبرى، يشيع العدالة والتنمية بأن تحالف الأمة المعارض يتعاون مع الشعوب في شكل من الأشكال، من ذلك إشارة نائب رئيس كتلة العدالة والتنمية البرلمانية بولنت توران بأن الشعوب الديمقراطي هو من سيحدّد مرشح تحالف الأمّة، على ما تسبّبه تلك الإشارة من إمكانية إبداء المعارضة تصلباً ما إزاء الشعوب بل والتراجع عن الحديث في المسألة الكردية بخاصة وأن التحالف يضم بين دفتيه حزباً راديكالياً كحزب الصالح والذي بدأت زعيمته ميرال أكشنر بتزكية مرشّحي المعارضة ووصفها عمدة اسطنبول أكرم إمام أوغلو بأنه “محمّد الفاتح” رغم ما يدين به أوغلو من جميل للشعوب الذي أوصله إلى منصبه، وتلك هي المفارقة، إذ يعتبر أوغلو مرشح الوسط بين حزب الصالح وبين نقيضه الموضوعي أي الشعوب الديمقراطي، غير أنّ مقياس دعم الشعوب يبقى رهين مبادئ حل المسألة الكردية بشكل واضح ودون تسويف وجعلها أسيرة الندوة البرلمانية، فيما يرجّح الجمهوري طرح عدّة مرشحين لمنافسة أردوغان بينهم عمدة أنقرة، منصور يافاش، ومهما يكن من أمر، يساهم تصويت ناخب الشعوب الديمقراطي في تحديد ملامح الرئيس المقبل.
كان الشعب الجمهوري سار على خطى العدالة والتنمية عبر زيارة رسمية إلى كردستان العراق، رغم ما يعلمه الحزب عن العلاقات والوشائج المتينة التي تربط قيادة الإقليم بالرئيس أردوغان، لكنها تبقى إشارة إلى تغيير كبير في سياسات الجمهوري فيما خص الحضور الكردي في الجوار، ورغبة بمغازلة الناخب الكردي في تركيا في مكان آخر، أو ربّما محاولة استفزاز أردوغان، سريع الغضب والمرتاب من تحالفاته وعلاقاته أيّاً تكن.
نجحت المعارضة في انتزاع بلدية اسطنبول من يد رؤساء العدالة والتنمية منذ العام 1994، وهو أمر لم يكن ليحدث لولا الدور الذي اضطلع به صنّاع الملوك وفق الوصف الذي قد يطبع الشعوب لاحقاً، لكن هذا الدور منوط بالعودة إلى “عملية الحل” التي طرحت عام 2012 ولم تعمّر لأكثر من ثلاث سنوات، بيد أن حل المسألة الكردية، أو الخوض فيها، بات يستلزم حل المشكلات التي تسبّبت بها تركيا في الجوار أيضاً، في كردستان العراق، وفي المناطق الكردية السورية، وهي تعقيدات لا يمكن أن نتفاءل إزاءها، لا سيما أن زيارة المعارضة التركية إلى الولايات المتحدة ركّزت على تطابق رؤيتهما إلى شكل التعاطي الحكومي مع الملف الكردي خارج تركيا.
في زاوية ما من المشهد، يريد أردوغان زيادة قوّته التفاوضية مع الشعوب الديمقراطي حال تهدّم تحالفه مع حزب الحركة القومية الفاشي، وهو ما يلمح إليه زعيم الحركة دولت بهجلي، مرّة عبر استخدام ورقة سياسيي الحزب الأسرى، ومرة عبر تحطيم المساحات الخضراء التي شيّدها الكرد في كردستان العراق وفي شمالي سوريا، وكذا عبر الإغراءات المالية والزيارات النشطة إلى ديار بكر، غير أنّ تسارع الوقت لا يخدم المنهج الأردوغاني وفهمه لفكرة التفاوض من موقع أقوى، وإلى ذلك تبقى المعارضة أكثر تحفّظاً إزاء تسطير ورقة مبادئ لحل المسألة الكردية، فيما يحافظ الشعوب الديمقراطي، طبقاً لتوزّع النسب في الاستبيانات، على دوره في أنّه صانع ملوك بات يجيد صنعته وإن في ظروف قاسية.