تفاهة سياسية أم سياسيون تافهون؟

بقول الباحث البروفيسور آلان دونو (نظام التفاهة) إن العمل السياسي يشكل المجال الخصب لنمو وازدهار التفاهة وإن الديمقراطية (بما تنطوي عليه من سلطة وخطاب ومال وجماهير) المجال الأخطر لذلك، ويلفت المؤلف إلى أن القصد من نظام التفاهة هو إسباغ التفاهة على كل شيء، وتكمن الخطورة الحقيقية في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة. كما نوه البروفيسور دونو، وهو أستاذ محاضر في الفلسفة بجامعة كيبك الكندية، أن سيادة التفاهة قرار عالمي صادر عن مراكز قوى عالمية تتحكم بمصائر حياة البشر على الصعد كافة، ثقافياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً.

هذا الكلام إذا سحبناه على المنطقة العربية، أو بتضييق أكثر على الحالة السورية، يمكن تقسيمه بين سياسيي النظام وسياسيي المعارضة، فعلى كلا الضفتين لن تجد إلا الشخصيات التافهة التي تتسيد المشهد سياسياً وإعلامياً على الأقل، ويبدو أن هذا الأمر لا يتم جزافاً أو بالصدفة، وإنما هو مدروس من كلا الجانبين، فحين يكون على رأس الحكم شخصيات تافهة فإن ذلك يجعل من السهل نهب البلد وسرقته وقمعه وإذلاله فيما يبقى المتسيدون مجرد صور لا معنى ولا قيمة لها وتسيطر الدولة العميقة على مفاصل الحكم، تلك الدولة المصغرة التي تحكم في الظل وتدير اللعبة كافة من خلف الأبواب الموصدة، ويبقون بعيدين عن الصورة فيما تبقى التفاهة هي سيدة الموقف ويصبح التافهون نجوم السياسة والفن والإعلام والثقافة والفكر.

وفي المقلب الآخر، يلاحظ جمهور الثورة سيطرة التفاهة على السياسي المعارض وتسيد مجموعة من الشخصيات التي تتميز بالتفاهة والأمية السياسية والثقافية والفكرية، والأمر هنا متعمد أيضاً ومدروس وله أغراض مريبة وتدعو للقلق، ذلك أن الغاية من وصول هذه الشخصيات إلى قيادة العمل السياسي المعارض القول بأن السياسة هكذا تفاهة بتفاهة وأنها فن الممكن أو فن الكذب وما إلى ذلك من مقولات لا ندري من أطلقها ولكننا بتنا نرددها ونصدقها على أنها حقائق سياسية غير قابلة للنقاش.

 وحول مفهوم السياسة يقول الدكتور إمام عبد الفتاح إمام في كتابه (فن السياسة) إن السياسة تعني الصدق مع الجماهير والشفافية في طرح المشكلات والحلول (غير أننا في عالمنا العربي تربينا على موضوعة أن السياسة فن الكذب والخداع)، ولهذا ترى البعض يبرر للسياسيين انحرافاتهم المفاجئة وتغير مساراتهم، فحين نقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المقاتلين السوريين للقتال في ليبيا وحوّلهم من ثوار حرية إلى مجرد مرتزقة يقاتلون لصالح من يدفع لهم وجدنا من يدافع عنه ويبرر فعلته بالقول (إنها السياسة)، وكأن السياسة تعني أن تكذب وأن تنحرف كما تشاء بما يخدم مصالحك الشخصية الخاصة بغض النظر عن مصالح الناس والبلد.

 وحين اجتاحت القوات الأميركية بغداد وجدنا سياسيين معارضين، بل ومعروفين بمواقفهم ونضالهم السياسي، يؤيدون تلك الخطوة بحجة محاربة الإرهاب والقضاء على الديكتاتورية، وإذا بالعراق ينتقل من ديكتاتورية شخص واحد إلى ديكتاتورية مجموعة من الأقزام السياسيين الذي يتعلمون الحلاقة في لحى الشعب العراقي بل ولحى الشعب العربي من المحيط إلى الخليج.

التفاهة السياسية تجد تربتها الخصبة أيضاً في الأيديولوجية الشعبوية، وهي الأكثر تأثيراً في الجماهير، وخاصة تلك الأيديولوجيات الشوفينية المتعصبة التي تبرز تمسكاً غير مبرر بالهوية القومية بعيداً عن الهوية الانسانية وأفكار بعث أمجاد الماضي (كما فكر حزب البعث العربي الاشتراكي).

الأمر الآخر الذي يتحدث عنه الكتاب والذي يشكل مساحة كبيرة للتفاهة السياسية هي الديمقراطية، إذ يؤكد المؤلف على أن توجه الأكثرية نحو أمر ما لا يعني بالضرورة أنه صحيح، ويحذر من خطورة ديكتاتورية الأغلبية التي تعني قهراً للأقليات في معظم الأحيان.

كما يحذر الكتاب من حكم الأقليات (الحكم الأوليغارشي) لافتاً إلى أن من يحكم العالم هم الأقليات، إذ لا يمكن للمجتمع كله أن يكون حاكماً، ولذلك يتنازل المجتمع عن بعض من حرياته وحقوقه لأقلية سياسية وعسكرية لتتحكم بمصيره، وأن الدولة سواء أكانت ديمقراطية أم أوليغارشية فإنها تملك أدوات القمع ذاتها (الأمن – الجيش – القوانين المفروضة).

يدفع السوريون حالياً أثماناً باهظة لحرب قذرة يقودها ثلة من التافهين على ضفتي المعركة، والتي أعتقد أن سطورها مكتوبة سلفاً وتم إملاؤها على تلك الشخصيات القيادية التي تقوم بنشر التفاهة السياسية والفكرية عبر مواقف وآراء وإطلالات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها التفاهة بعينها.