فؤاد حميرة
بالصدفة البحتة وقعت على كتاب (نظام التفاهة) للباحث الدكتور آلان دونو، أستاذ الفلسفة في جامعة كيبك الكندية، أما الترجمة فلشخصية لا تقل أهمية عن الباحث نفسه، إنها الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، أستاذة القانون الدولي في جامعة الكويت، التي كتبت مقدمة للكتاب غاية في العمق.
تدور فكرة الكتاب حول أن البشرية تعيش وضعاً غير مسبوق (تتعلق بسيادة نظام أدى إلى سيطرة التافهين على مفاصل الدولة الحديثة) عبر صعود غريب بقواعد (تتسم بالرداءة والانحطاط) حيث (تدهورت متطلبات الجودة العالية وغُيّب الأداء الرفيع وبرزت الأذواق المنحطة وأٌبعد الأكفاء وخلت الساحة من التحديات فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية).
وتذكرنا الباحثة المترجمة بخوف الفيلسوف (مونتيسكيو) وقلقه على الحرية من وقوعها في التفاهة والابتذال فيقول: (إن ممارسة الحرية من أكثر الشعوب تمسكاً بها تحملني على الاعتقاد بأنه ينبغي أن يوضع فيها غطاء يستر الحرية مثلما تُستَر تماثيل الآلهة) .
ويؤكد المؤلف في كتابه على أن التفاهة تنتشر في كل مفاصل الحياة كالفن والسياسة والثقافة والمجتمع والرأي والإعلام وغيرها من مناحي الحياة، وصارت الإيديولوجيا نوعاً من التحيز، والثبات على المبادئ نوعاً من العناد الديكتاتوري غير المبرر، وصار من حق الجميع إبداء الرأي بالجميع وفي كل شيء دون الالتفات إلى الإمكانات الفكرية والثقافية والعلمية تحت راية الديمقراطية والرأي الآخر، واختفت الرموز، فيما سيطر أشخاص من الدرجة الثالثة والرابعة فكرياً وذهنياً وثقافياً على مفاصل الفن والإعلام والسياسة والأدب، وتراجعت الفلسفة لحساب التخصصات العلمية والمهنية، وصار المطلوب من الفرد ليس العمل على تبني رأي، وإنما عدم تبني رأي بذريعة الانفتاح على كل الآراء والمواقف.
على الصعيد الشخصي أستطيع الحديث عن تجربتي في مجال الفن والدراما التلفزيونية حيث ترفض شركات الإنتاج أي عمل يحمل فكرة لها عمقها وقدرتها على التأثير بحجة أن الظرف لا يسمح أمنياً بذلك، ويقولون باشمئزاز إن الناس ملت الأفكار والجمهور يتوق إلى التسلية السطحية التي لا تحتاح منه إلى أي جهد ذهني. وواضح أن الهدف من ذلك هو تعميم التفاهة والتسطيح ونشرها بين أوسع شرائح المجتمع. أما بخصوص الفن الغنائي فجميعنا يلاحظ أن من يتسيد الساحة الغنائية على مستوى العالم وليس في منطقتنا فقط هم الأقل خبرة والأقل موهبة.
يؤكد المؤلف في كتابه على أن التفاهة تدفع بالتبسيط إلى أقصى حدوده (والحقيقة أن كل ما حولنا يشي بتسطيح الهام وتسخيف المعتبر من خلال الاستخدام المبالغ به للغة والخطاب الساذجين بدعوى التبسيط).
في أحد الفصول يعرج المؤلف على الاعتبارت الأكاديمية ويشرح مدى تأثرها بما يشاع من تفاهة، ولعل أبرز ما ذكره المؤلف في هذا الفصل هو تسليع المعرفة ووضعها في خدمة الممولين.
وفيما يخص الثقافة يلفت المؤلف إلى أنها أصبحت أداة هامة في توطيد نظام التفاهة، ولا ينسى الكاتب الإشارة إلى ما أصاب الصحافة والإعلام من سطحية وتفاهة، خاصة ما يعرف بصحافة التابلويد التي تهتم بالحياة الخاصة للمشاهير أكثر مما تهتم بنتاجهم، ويضرب مثالاً على ذلك رواية (زوسكيند) التي تحمل عنواناً غريباً (هوس العمق) التي تتحدث عن فنانة تشكيلية تقيم معرضاً لها، فكيتب عنها أحد الصحفيين بأنها موهوبة ولكنها تفتقد للعمق، وسرعان ما تتردد هذه الجملة ببغاوياً في الصحف الأخرى ووسائل الإعلام المختلفة حتى تصبح حقيقة لا تقبل النقاش دون أن يفكر أحد في مراجعة تلك الجملة أو التأكد من حقيقتها.
إن اعتبارات التفاهة بحسب المؤلف لا تتوقف عند الصحافة فقط، فهي تتجاوزها إلى القراء أيضاً وخاصة أولئك القراء الذين (لا يقرؤون الكتب ولكنهم مفتونون بتكاثر المجلات وبمواضيع أغلفتها). وهذا الوضع يمكن إسقاطه هنا على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيسبوك، فالتطابق بين ما قاله المؤلف عن صحافة التبالويد والفيسبوك يكاد يكون (نسخ لصق) على الحالة الراهنة، ويؤكد الكاتب على أن نظام التفاهة لا يثبت فعاليته القصوى إلا مع مثل هؤلاء الناس.
أما في مجال التلفزيون فيرى الكاتب أن صفتين تصمان التلفزيون في أيامنا هذه، واحدة تتعلق بمذيعيه والأخرى تتعلق بضيوفه، فمن جهة المذيعين اختفت الشروط الصارمة التي كانت توضع أمام من يرغب في الوصول إلى الشاشة كمذيع وحول الاختصاص الذي يريد الولوج فيه، وتم اختصار كل تلك الشروط في شرط واحد هو الجمال بغض النظر عن كونه جمالاً طبيعياً أم اصطناعياً. أما ما يتعلق بالضيوف فلقد كانوا في الماضي من (صناع الملوك والزعماء) ورجال السياسة وحاشية البلاط، أما الآن فقد بات الاستديو هو الصانع الحقيقي حتى لو كان هذا الاستديو صغيراً وضيقاً.
وسوف نتابع في العدد القادم الحديث عن التفاهة في السياسة والأدب وغيرهما من مناحي الحياة التي تطرق إليها المؤلف وشاركته المترجمة بشكل كبير في آرائها القيمة حتى ليصعب الفصل بين رأي المؤلف ورأي المترجمة.