يشغل رفعت الأسد في ذاكرة أغلب السوريين موقعاً سلبياً، فما إن يُذكر حتى تقفز إلى سطح الذاكرة الجرائم العديدة التي ارتكبها بحق سورية والسوريين. لكن ينبغي أن لا نقلل من أهمية جمهوره في حينه سواء في سرايا الدفاع ووسطها الاجتماعي. لم يكن خافياً طموح رفعت لخلافة أخيه في هرم السلطة وكان قد أعد العدة لذلك ببناء علاقات متشعبة داخلية وخارجية.
على الصعيد الداخلي عزز من قوة وهيبة سرايا الدفاع وربط جميع ضباطها به شخصيا ومنعها من تلقي الأوامر إلا منه. وعندما حاول الرئيس حافظ الأسد بعد خروجه من غيبوبته فيما صار يعرف بأزمة أواسط الثمانيات الطلب من تشكيلات السرايا التي كانت تحاصر عمليا دمشق المغادرة إلى سكناتها فلم تستجب إلى طلبه.
أدرك رفعت أن قوته في سرايا الدفاع لوحدها لا تكفي فخصومه (حلف العليات) لديهم قوة مماثلة بل ربما أكثر لذلك حاول أن يحيط نفسه بمجتمع من المثقفين وأساتذة الجامعات فأنشأ رابطة خريجي الدراسات العليا وأغدق على منتسبيها المزايا. وخلال فترة ترؤسه لمكتب التعليم العالي في القيادة القطرية حاول تعيين أكبر عدد ممكن من الموالين في الجامعات السورية، بل وإيفاد الكثيرين إلى الخارج. بالطبع كان رفعت الأسد يدرك أهمية تقوية حاضنته في وسط العلويين لذلك كانت الحصة الكبرى من الموفدين إلى الخارج وكذلك من التعيينات في الجامعات السورية منهم.
على الصعيد الخارجي نسج علاقات مع كثير من الدول العربية وتحديداً مع السعودية، بل ومد خيوطاً نحو أمريكا، وقيل في حينه أنه تعهد بانجاذ تسوية مع اسرائيل. وبطبيعة الحال كان لا بد من تأمين كل هذه العلاقات مادياً. لذلك فهو لم يترك بابا يمكن أن يدر عليه دخلاً دون أن يطرقه بدءاً من تجارة الأثار مرورا بتجارة المخدرات إلى الخوات الكثيرة التي كان يتقاضاها لقاء تقديم خدمات على صعيد أجهزة الدولة، ولا ينبغي أن ننسى ما حصل عليه من السعودية من أموال.
على الصعيد الشخصي قد يكون مناسباً ما وصفه به خصومه وهو الأزعر، أي أنه لم يكن يتحلى بأخلاق المسؤول ورجل الدولة خصوصاً تجاه خصومه من حلف العليات. لقد كان يمارس الزعرنة عليهم، فكم من مرة قطع الطريق عليهم إلى مطعم كان لدى بعضهم فيه نشاط اجتماعي، أو أرسل من يعطب سياراتهم. بالمناسبة يصعب تذكر جميع سلوكياته سواءً تجاه خصومه أو حلفائه مع أن مجرد الإعلام عن عودته إلى القطر بدأت الذاكرة تعيد دفع كثير من هذه المشاهد إلى السطح رغم بعد الزمن بها.
عاد إذاً رفعت الأسد إلى سورية بعد أكثر من ثلاثين سنة قضاها في الخارج يتابع استثماراته ويتنعم بما نهبه من ثروة الشعب السوري ليجد أغلب من تصارع معهم خصوصاً من حلف العليات قد صار خارج الفعالية سواء بفعل التقادم الزمني أو بفعل الأمراض وبعضهم قد غيبه الموت، لكن جميعهم طواهم النسيان وصاروا من الماضي. خلال أكثر من ثلاثة عقود على مغادرة رفعت لسوريا ولدت أجيال جديدة باهتمامات جديدة لا تذكر عن رفعت وجيله إلا النذر اليسير، بل كثيرين وبنوع من الاستغراب سألوا من هو رفعت الأسد؟!. من المعلوم عن سياسات النظام أن من تغضب عليه السلطة تعتم عليه كثيراً وتزيحه من دائرة الضوء. أضف إلى ذلك فإن القضايا المعيشية الضاغطة واستمرار الأزمة دون أفق للحل تجعل الناس غير مبالين بعودة رفعت الأسد. لقد توقع البعض احتفاء جمهوره السابق بعودته، لكن أين صار هذا الجمهور، بل وأين صار جمهور حافظ الأسد ذاته؟!. أغلب من علق على الموضوع نظر إليه من زاوية إنسانية وأن “الدم ما بصير مي”.
الغريب كيف استقبلت مختلف الأطراف السورية نبأ عودته. بعض المعارضة جنح به الخيال إلى القول أنها لعبة أدوار بين العم وابن أخيه قد يخلف بها العم ابن أخيه لبعض الوقت، ولكي تكتمل حبكة هذا الخيال الجامح فإنه أشرك الدول الغربية فيه كأطراف فاعلة وضامنة. لكن كيف لرجل في أواسط الثمانينات من عمره وقد أصابه الخرف أن يؤدي هكذا دور.
أغلب المعارضين في الخارج منزعجين من السلطات الفرنسية والاسبانية لسماحها له بالمغادرة وقد صدر بحقه حكم قضائي واجب التنفيذ. هنا يمكن القول بنوع من الثقة أن مساومات من نوع ما قد جرت بين السلطات الفرنسية والاسبانية والسلطات السورية للتخلص من رجل عجوز لا تريده أن يتوفى في سجونها فسمحن له بالمغادرة إلى بلده. ولا ينسى بيان الجهات الرسمية السورية التي أعلنت خبر عودته بربط ذلك بالتسامي الذي يتحلى به الرئيس، وأنه غفر له ما تقدم من ذنوبه وما تأخر. يا ليته شمل بعفوه وتساميه عشرات الآلاف القابعين في سجونه أو اضطرتهم الظروف إلى مغادرة البلد بالعودة إلى عالم الحرية في ربوع الوطن.
القضية باختصار رجل عجوز محكوم بأربعة سنوات سجن وحتى لا ينفذ فيه فقد سمح له بالعودة إلى بلده، ولا ينبغي أن ننسى ان الحديث يجري على عم الرئيس. لا تحتاج عودته إلى أية قراءات أو تأويلات سياسية بل إنسانية صرفة. وبالمناسبة كان قد فعلها بشار الأسد مع الرئيس الأسبق لسوريا أمين الحافظ الذي علق على الحدود العراقية السورية بعد الغزو الأميركي للعراق في عام2003 فسمح له بالدخول وقضاء بقية حياته في حلب.