“ولدي ورأس العين”.. حسرة أم في مخيم بريف ديرك
ديرك- نورث برس
لم يستطع عامان من النزوح في مخيم نوروز بريف ديرك، أقصى شمال شرقي سوريا، أن ينالا من حضورها القوي وقسماتها الصلبة، ولا حنانها الذي يتبدى في استخدامها “بُنيّ.. بنيّتي” كلما خاطبت أحدهم.
تقول إنها تأمل من الله أن تعود، إلى مدينتها التي تلفظ اسمها بالكردية تارة وبالعربية أخرى، إلى منازل عائلتها ولو كانت ركاماً “سنعمرها عاماً بعد آخر”.
فهيمة مسلم (62 عاماً)، هي أم فُجعت قبل عامين بولدها الذي قضى في قصف تركي، وفقدت مدينتها وكل ممتلكات عائلتها هناك بعد اجتياح قوات أنقرة ومسلحي المعارضة الموالين لها للمنطقة.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، سيطرت تركيا على منطقتي سري كانيه وتل أبيض شمالي سوريا، وتسببت بنزوح 300 ألف شخص بحسب تقارير حقوقية.
ويخرج نازحو سري كانيه في مثل هذه الأيام عن صمتهم، ليبدأ سرد مخزون المآسي والذكريات، صور جميلة للحياة قبل الغزو التركي ثم فظائع بشعة بحق سكان اعتبروا أنفسهم على الدوام أعزة.
تقول “مسلم” إنها تتأمل أوضاع الناس وحالها، وتردد في نفسها: “ما لنا وهذه الخيام؟ ما الذي رمانا إليها؟ كنا أصحاب أربعة منازل، نسكن الطابق الثالث ولنا عقارات وأملاك”.
وتضيف بعد أن وصلت بصعوبة لمدخل الخيمة قبل قليل: “لم أكن أسير أبعد من عتبة الباب، كانت السيارة موجودة وتحملني من العتبة، ماذا أفعل الآن؟”.
“لتذهب الممتلكات وليعش ولدي”
لا تختلف قصة عائلة فهيمة عن غيرها من قصص نازحي مدينتها، لكنها تعتبر نفسها الأكثر خسارة بسبب فقدانها ابنها الذي عاد مع صديق له لحمل بعض الجرحى فاستهدفتهما طائرة مسيرة تركية.
كان صباح الجمعة بعد انتقال نساء العائلة لقرية “عبد السلام” القريبة من المدينة، حين أحضر لها ابنها حاجيات من منزلهم بعد أن أدركوا أن لا عودة قريبة.

“تلقى ابني اتصالاً من صديق له، قال إن بعض الجرحى يئنون ممدين على الأرض، فأسرع إلى سيارته ليذهب”.
تقول وكأن ابنها أمامها الآن: “يا بني لا تذهب”، لكنه لم يقبل، بل إن أخاه الآخر رافقه قبل أن ينزله في منتصف الطريق “انتظر هنا سنحضر الجرحى ونعود”.
تتذكر الأم الثكلى كل التفاصيل، حتى تلك التي لم ترها مباشرة، فتقول إنه اقترب من الجرحى لمسافة تقدرها “بين هنا وذلك المكان” عندما ضربت الطائرة التركية السيارة التي استوت بالأرض مع ابنها ورفيقه.
في اليوم التالي توجهت العائلة لبلدة تل تمر، لكن القصف التركي كان في كل الأرجاء، لينتهي بهم المطاف في بلدة كركي لكي (معبدة) شرق القامشلي.
“احترنا ولم ندر ما نفعل، فقدنا منزلنا ومحلنا وعقاراتنا وممتلكاتنا، قلت لتذهب كلها وليعش ولدي، ليته على قيد الحياة، لكننا حتى اليوم هذا لم نصل لجثمانه”.
أيام عصيبة وأوجاع لا تنتهي
في الأيام القليلة اللاحقة، تسلل الابن الآخر لفهيمة إلى مدينته بنية الدفاع عنها هذه المرة، “رغم أن الرفاق (وحدات حماية الشعب) منعوه من ذلك”، فأصيب هو الآخر ونقل للمشافي.
وقضت الأم أياماً بالغة الصعوبة لفقدانها ابناً، وقلقها على الآخر المصاب، بينما كان مركز الإيواء (بناء مدرسة) في كركي لكي يزدحم بالنازحين.
“كنا 32 أسرة من الأقارب، لا طعام ولا ملابس معنا وأصوات البكاء تملأ المكان”.
قدمت منظمات محلية بعض المساعدات بعد انسحاب المنظمات الدولية مع اشتداد القصف التركي على معظم مناطق شمال شرقي سوريا الحدودية، كما أن تعاميم صدرت من حكومة دمشق بمنع إيصال المساعدات لمخيمات أنشأتها الإدارة الذاتية.
وانتقلت العائلة لمخيم نوروز الذي أعيد افتتاحه بعد إغلاقه عقب خروج لاجئي منطقة شنكال في العراق الفارين من هجمات تنظيم “داعش” عام 2014، لأنهم عادوا لمناطقهم أو استقروا في أماكن أخرى.
ويسكن في مخيم نوروز، 790عائلة نازحة من مناطق عفرين وسري كانيه وتل أبيض وتضم 3.986 فرداً، بحسب آخر إحصائية قامت بها إدارة المخيم.
واستأجرت عائلة ابنها لاحقاً منزلاً في بلدة كركي لكي لتتابع البنات تعليمهن، بينما ترك الابن (15 عاماً) الدراسة للبحث عن عمل يعيل به الأسرة بعد فقدان والده.
تقول جدته إنه مازال صغيراً على الأعباء الثقيلة على إعالة سبعة أفراد من عائلته، بينما كان والده يتكفل بمساعدة “أربع أُسر” لأخويه ووالده إلى جانب أسرته.
وتتذكر حسرتها على ابنها: “برحيله تشتتت حياتنا، صرنا كقطيع بلا راع، ماذا أفعل؟ والله أجلس على إفطاري صباحاً، ولا أستطيع تناوله”.
حياة ذل ودعاء للعودة
وتعاني “مسلم” من مشكلات صحية كعدم انتظام ضغط الدم وتسرّع في القلب، لكن قلقها على أبنائها وأحفادها وحزنها على ابنها ومدينتها يبدو أشد بكثير.
” كل ذلك من ألمي وأوجاعي على فقدان ابني وسري كانيه، تلك حسرتي، ونحن في حال سيئة هنا، لا غذاء يكفي ولا حياة تحلو هنا”.
وتشتكي العائلات النازحة في مخيمات ومراكز إيواء في منطقة شمال وشرق سوريا من نقص المساعدات التي يقول مسؤولون محليون إنها بسبب شح ما يرد من المنظمات الدولية في ظل استمرار إغلاق معبر اليعربية الإنساني بسبب الفيتو الروسي.
وتتهم الإدارة مكتبي الأمم المتحدة في دمشق والقامشلي بالعمل وفق ما تريده الحكومة السورية والأفرع الأمنية التابعة لها، داعية في بيانات سابقة لعدم تسييس ملف المساعدات الإغاثية.
أما الأم فهيمة فما زالت تأمل تحقيق دعائها بأن يعيدها الله مع عائلتها لمدينتها، ويبعد عنهم “حياة الذل”.
ورغم أنها لا تدري شيئاً عن حال منزلها ومنازل أبنائها، وتوقعها الخراب هناك بسبب ما سمعته عن النهب والدمار والانتهاكات في المدينة، تبقى تحن لمنزلها “سوف نجلس على حجارة الأنقاض.. ذلك أفضل من حالنا هنا”.
ومنتصف أيلول/ سبتمبر الفائت، قال محققون للأمم المتحدة إن المحن تتفاقم في سوريا بعد تصاعد العنف والقتال ما يجعلها غير آمنة لعودة اللاجئين، بينما قال تقرير اللجنة نفسها العام الماضي أن انتهاكات المجموعات التابعة للجيش الوطني المعارض قد ترقى لجرائم حرب.
وكلما عددت “مسلم” ممتلكات عائلتها التي راحت، أدرجت “الحياة” بينها، ثم تكرر “لا حياة لنا هنا”.
وحتى الأزهار تتوقعها “مسلم” تالفة هناك في سري كانيه، تقول إنها ستحتفظ ببذور مما زرعته هنا حول خيمتها كي تزرعها من جديد هناك.