التاريخ يعيد نفسه

كلما قرر الفقراء الانتفاض ضد الأوضاع المزرية التي يعيشونها محاولين تصويبها وتصحيحها، خرج عباقرة الرأسمال بحلول للقضاء على هذه الانتفاضة، فيدخلون الفقراء في مشاكل طائفية لينسوا أساس الصراع وأسبابه الحقيقية وتتحول الانتفاضة من محاولة تصحيح وضع طبقي شاذ إلى انتفاضة سنة – شيعية أو حرب إسلامية – مسيحية أو درزية – بدوية، ويعود التاريخ ليكرر نفسه بطريقة تذكرنا بمعلماتنا في المرحلة الابتدائية حين كنا نشاغب فكنّ يفرضن علينا كتابة العبارة التالية (يجب ألا أشاغب في الصف) مائة مرة. كأن التاريخ يعاقبنا ذات العقوبة فيتكرر بذات الصيغة (فقير منتفض يساوي حرب مذهبية)  متكرراً عبر التاريخ مئات المرات.

لا يفهم المؤيد أو لا يريد أن يفهم أن أي فقير يدور على واجهات المحلات في دمشق ولا يستطيع شراء حذاء للعيد الذي يقترب فإنه على استعداد لحرق دمشق، وأن الجائع الذي لا يجد في بيته قوت يومه، على استعداد لحرق حلب بكل رأسمالها ومصانعها. ولا يريد المؤيد أن يفهم أن الحل ليس في قتل هذا الفقير الذي يشبهه وإنما الحل يكمن في مساعدته على تصويب الأوضاع الشاذة لا محاربته واتهامه بالطائفية والتآمر والعمالة. لا يريد المؤيد أن يفهم أنه يقاتل ليس دفاعاً عن طائفته أو عن سيادة بلده وإنما هو يدفع أغلى ما يملك لحماية الزعيم الذي يحار الآن في الوجبة التي سيقدمها لكلبه، أو يحار في اختيار نوع السيارة التي سيهديها لابنته التي نجحت في امتحان الثانوية العامة. لا يريد المؤيد أن يفهم أنه يقاتل دفاعاً عن رامي مخلوف ومشاريعه وأمواله وعن محمد حمشو وأمواله وعن حسابات أسماء الأسد السرية في البنوك الأوربية، لا يريد المؤيد أن يفهم أنه قاتل وقتل دفاعاً عن عائلة تسببت في إدخال العلويين في حرب ضد جميع السورين، وأن النظام – دفاعاً عن كرسه –  أدخل الطائفة في مأزق تاريخي لا يمكن محو ذكراه إلا بحلول إعجازية أو مع الزمن الذي يحتاج إلى مئات السنين. وهنا يكرر التاريخ نفسه، فحين كان العلويون ينتفضون ضد ظلم العثمانيين كان الجميع يتهمهم بالكفر والتآمر على وحدة الدولة، لا يريد المؤيد أن يفهم أن هذه هي حال رأس المال في كل الأزمنة والأمكنة، فأية انتفاضة ضد الظلم والجوع والفقر والتهميش هي كفر أو تآمر وعمالة.

ليت أهلنا في الداخل، وخاصة المؤيدين منهم، يقرؤون التاريخ لإدراك هذه الحقيقة، ولمعرفة أن السني الفقير لم يثر على الحكم العلوي بل ثار على وضع يشبه وضه العلويين أيام العثمانيين، تهميش واعتقال وقتل على الشبهة وموت تحت التعذيب، ثار على الظلم والاضطهاد والإقصاء والفقر، ثار ليصوب وضعاً غير إنساني، ثار انتقاماً لكرامته التي مرغتها أجهزة الأمن بالتراب، ثار على اللهجة الساحلية التي أصبحت مصدر رزق عند الناطقين بها، ثار على الفساد الذي استشرى، ثار ليستعيد وطناً له وللعلويين ولكل طوائف ومكونات سوريا. ليت أهلنا يدركون أن العلوي الفقير والسني الفقير أخوة وأن اتحادهم يهز عرش الجلاد، ولذلك سعى – ونجح للأسف – إلى تفريق الشعب السوري وتمزيقه عبر افتعال حرب طائفية استغل فيها خوف الأقليات من السنة مدعياً حماية الأقليات وحماية حقوقها وكأن السني جاء ليأكل حقوق الجميع لمجرد أنه أكثرية في البلاد,

على المقلب الآخر أتمنى لو يفهم أهلنا من السنة أن هذه الحرب لم تكن طائفية بل أصبحت طائفية، وأن النظام نجح في جرهم إلى هذا المطب، فساعدوه وقدموا له الدلائل على كبته الإعلامية، فصدروا خطاباً طائفياً كان مرعباً للسنة كما هو مرعب للعلويين ولباقي الطوائف.

 ليت أهلنا السنة يفهمون أنهم ساروا في الطريق الغلط حين وقعوا في الحفرة التي حفرها لهم النظام في تحويل مطالبهم المشروعة في الحرية والعدالة والمساواة إلى مطالب طائفية مذهبية، وأنهم أطالوا في عمر النظام وعمر الصراع، فكانت التكاليف مرتفعة حد القهر والموت.

 ليت أهلنا السنة عملوا على تفادي المصيدة التي نصبها النظام وأعوانه، نعم لم تكن استجارة النظام بالشيعة لحمايته عفوية فالذي حماه هو الجيش الروسي، وهو يعلم ذلك تماماً، ولكنه استدعى شيعة لبنان والعراق وإيران وأفغانستان ليحول هذه الحرب إلى صراع طائفي، وأؤكد مع الأسف أنه نجح في ذلك، فتشكلت الفصائل الإسلامية المتطرفة التي قدمت خدمات جليلة للنظام عبر تصديرها للخطاب الطائفي.

التاريخ يعيد نفسه أيها السادة الفقراء، فكلما فكرتم في حقوقكم خرج عليكم خبثاء السياسة ليدخلوا التاريخ ويخرجونكم منه فيصنعون أمجادهم على حساب دمكم الممزق، يكرر التاريخ نفسه مثل عبارات متسول يمد يده بالدعاء المتكرر واللجوج للحصول على لقمة تقيت جوعه، التاريخ يعيد نفسه لأن تاريخنا بلا كرامة، فالكريم لا يتذلل بالتكرار، ولا يقتل كرامته بالتكرار، التاريخ يعيد نفسه لأننا لم نفهم دروسه والتكرار فلعل التكرار يعلمنا.