مرض طفلتها وقهر النزوح يتعبان نازحة من تل أبيض

عين عيسى- نورث برس

اعتادت سامية محمد (45 عاماً)، وهي نازحة من قرى ريف تل أبيض تعيش في مخيم بريف الرقة شمالي سوريا ، على الجلوس لساعات حتى تبقى قرب ابنتها المصابة بضمور دماغي، والتي تفاقمت حالتها منذ اجتياح تركيا والفصائل الموالية لها لتل أبيض في مثل هذه الأيام من العام 2019.

“لا تستطيع السير أو الكلام”، تصف الأم حال ابنتها التي تبلغ تسعة أعوام، وتواسي نفسها “يمكن هادا نصيبنا من الحياة”.

وتسكن سامية برفقة زوجها وأولادها الستة (أكبرهم في الثامنة عشرة) في خيمة بالطرف الجنوبي من مخيم خُصص لنازحي تل أبيض في بلدة تل السمن، 35كم شمال مدينة الرقة.

وتسببت الحرب بأمراض نفسية وجسدية لآلاف السوريين ونزح الملايين إلى المخيمات أو خرجوا من البلاد خلال أكثر من عشرة سنوات،  هاربين من الموت وباحثين عن الأمان.

دخان أسود

بدأت قصة سامية من سكان قرية سبع أجفار، 15كم جنوب تل أبيض، بعد الهجوم الذي شنته القوات التركية وفصائل المعارضة المسلحة الموالية لها في التاسع من أكتوبر عام 2019 على مدينتي تل أبيض وسري كانيه شمال سوريا.

“كان الهجوم على قريتنا مفاجئاً رغم التهديدات شبه اليومية التي كان يطلقها الرئيس التركي عبر وسائل الإعلام بشن هجوم على تل أبيض”.

وبعد البدء بالعملية العسكرية بأيام قليلة، وعندما كانت “محمد” تُحضر وجبة الغداء لأولادها، بدأت الطائرات التركية والمدفعية بالقصف على قرى في أرياف المدينة ومنها قرية سبع أجفار.

تقول: “على وقع أصوات القصف وسط صراخ النساء والأطفال خرجتُ من المنزل وإذ أن الدخان الأسود يغطي السماء”.

تركت سامية كل شيء خلفها وخرجت برفقة أسرتها نحو أرض زراعية لعائلتها، حرثوها حديثاً بنية زراعتها، ثم عادت مع أفراد عائلتها لاحقاً لمنزلهم عند هدوء أصوات القصف.

وما إن وصلت إلى منزلها حتى بدأ القصف مجدداً وغطى دويه على هدوء القرية، وكانت تلك المرة الأخيرة التي رأت الأم فيها منزلها، إذ بدأت بعدها معاناة النزوح.

الطائرات الحربية والمسيرات كانت تستهدف كل شيء في القرية، وطغت “أعمدة الدخان والصرخات على القرى التي كانت هادئة قبل لحظات.” وفقاً لما قالته سامية.

وأضافت: “لم أعرف ماذا أفعل، أبكي أم أواسي أطفالي المرتعبين وسط أصوات القصف؟”.

فاتورة القصف

وتفاقم مرض طفلتها المصابة بـضمور دماغي التي كانت تبلغ (سبعة أعوام)، الأمر الذي تعيده الأم لاشتداد أصوات الطائرات الحربية التي كانت تحلق في سماء القرية.

تحاول سامية أن تعود بذاكرتها إلى اللحظات التي سبقت الاجتياح التركي قبل عامين حين كانت تنعم بأمانٍ وكرامة، بالمقارنة مع ظروف إنسانية واقتصادية سيئة تعيشها اليوم.

وشرد الهجوم التركي على مدينتي سري  كانيه وتل أبيض ما يزيد عن 250 ألف شخص، وفقاً لمنظمات حقوقية.

وفي طريق النزوح إلى مدينة الرقة، شاهدت سامية عائلات كانت تفترش الطرقات في العراء وأخرى تنام بين الأراضي الزراعية تنتظر مصيرها ومصير قراها على أمل عودةٍ قريبة.

“بينما كان آخرون يقفون مذهولين وهم يرون قراهم التي تلوح من بعيد وهي تتلقى القذائف دون أن يكون بيدهم حيلة لإنقاذها.”

وكانت تلك المرة الثانية التي تركت فيها سامية منزلها، فقد نزحت من قريتها المرة الأولى عندما هاجم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المنطقة.

الطفلة الضحية

ولجأت سامية مع عائلتها إلى مدينة الرقة حيث أحد أقرباء زوجها، لتبقى في المدينة لثلاثة أشهر.

لاحظت بعد مضي شهر أن طفلتها تتصرف تصرفات “غير طبيعية”، مثل النسيان المفرط وفقدان الشهية ورخاوة في أطرافها.

ذهبت بها إلى أطباء في الرقة ومن ثم إلى مدينة دمشق لمعالجتها، لكن دون جدوى، لم تحصل الطفلة على العلاج اللازم لتشفى من مرضها.

وقال طبيب أطفال من مدينة الرقة، فضل عدم ذكر اسمه، إن الصدمة النفسية المرافقة للخوف يمكن أن تترافق باختلاج دماغي ينتج عنه مشاكل دماغية من بينها الضمور ونقص الأكسجة داخل بنية الدماغ.

وأشار الطبيب إلى أن الفحوصات الطبية اللازمة مثل التصوير الطبقي محوري والرنين المغناطيسي كان من الممكن أن تشخص حالة الطفلة في وقت مبكر، وتقديم التدخل العلاجي أو الجراحي في الوقت المناسب.

وانتقلت أسرة سامية إلى مخيم لنازحين في بلدة تل سمن، وفضلت المخيم على أن تكون ضيفة ثقيلة على عائلة أخرى.

بتشاؤم وحرقة قلب ملحوظين، ترى سامية طفلتها ممددة على فراش في مخيم، بينما أبناؤها الآخرون وأبناء الجيران ممن هم في عمرها يذهبون للتعلم.

تُكمل حديثها: ” بيجوز هي ما بتعرف وما بتدرك، لكن أنا عم موت ألف موتة كل يوم”.

وإلى جانب عائلة سامية، تقطن نحو 1200 عائلة أخرى في مخيم نازحين تل أبيض الذي أنشأته الإدارة الذاتية قبل ما يقارب ثلاثة أ‘وام في قرية تل سمن شمال الرقة.

وتعمل في مخيم تل السمن منظمتان إحداهما دولية في مجال حماية الطفل والأخرى محلية في مجال  الدعم النفسي، إلا أن عملهما يقتصر على تعليم الأطفال على الرسم في خيمة داخل المخيم، بحسب نازحين.

ويفتقر أكثر من خمسة آلاف طفل، لم يبلغ نصفهم الخامسة عشرة، في مخيم تل السمن لظروف وحقوق عيش تناسبهم، بحسب إدارة المخيم.

ظروف القهر التي عاشتها العائلة في الرقة تسببت بتأزم الوضع الصحي لمعيل الأسرة وارتفاع معدل السكر في دمه لمستويات خطيرة، لينقل إلى مدينة دمشق وتبتر ساقه هناك.

زادت معاناة سامية بمرض زوجها الذي كان يعينها نوعا ما على مرارة النزوح، لتفقد سندها الأخير أمام قهر الحياة.

ويعمل الولد البكر للعائلة عاملاً في بلدة عين عيسى، بينما تعمل ابنتان خارج المخيم في قطاف القطن، لتبقى الأم في المخيم للاعتناء بطفلتها المريضة وأطفالها الصغار وزوجها المصاب بمرض السكري.

تتوقف سامية قليلاً عن الحديث لتنظر إلى طفلتها التي لا تتحرك: “نؤمن بالعودة مجدداً للعيش في منزلنا، فلا بُدَّ للأرض أن تعود لأصحابها يوماً.”

إعداد :كلستان محمد – تحرير: زانا العلي