في مسرحية (افعل شيئاً يا مت) للرائع التركي عزيز نيسين، يصور الكاتب بيتاً يتهاوى بينما بطل المسرحية (مت) جالساً على الكرسي في الصالون غير آبه لشيء رغم صراخ والديه بأن يفعل شيئاً ليوقف الانهيار، وتتالى صيحات استغاثة الوالدين إلى الصالون لكن (مت) يرد ببرود بأنه يفعل شيئاً، إنه يهز ساقه ويبقى هكذا حتى نهاية المسرحية.
هذه الفكرة ذكرتني بحال العرب منذ من بداية القرن الماضي وربما قبله بكثير، فهم لم يفعلوا شيئاً خلال قرن ونيف على الإطلاق اللهم إلا خروج الدول الاستعمارية وترك البلاد وديعة لدى حكومات عميلة لها وتابعة للمشروع الاستعماري الأقل كلفة على الجميع.
بقي الأتراك يستعمرون المنطقة العربية أربعة قرون في ظل دولة تتعمد المشروع المحافظ النمتخلق القائم على الحامل الديني لخشيتها من صعود العوامل القومية التي رأت فيه إستانبول آنذاك تهديداً لوجود الدولة وتماسكها، لذا عمد السلاطين المتتابعين على الحكم إلى الاستمرار في سياسات التجهيل وصناعة التخلف، إلى أن جاء الإنكليز وأقاموا ثورة، ادعوا أنها عربية، انطلقت من الحجاز في حين كان المخطط لها والمهيئ لظروفها هم الإنكليز في المقام الأول والأمريكيان في المقام الثاني.
وبعد انتهاء الحكم العثماني وسقوط خلافة بني عثمان التركية مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبفعل الثورة غير العربية المنطلقة من شبه الجزيرة العربية، جاء الاستعمار الأوربي فكان نصيب سوريا ولبنان من حصة فرنسا وفقاً لاتفاقية سايكس – بيكو سيئة الصيت فيما تم اقتطاع فلسطين وهي جزء من بلاد الشام تاريخياً، من حصة فرنسا ووضعها تحت الوصاية البريطانية ومع ذلك لم يفعل العرب شيئاً، وإذا كان (مت) في مسرحيتنا التي أتينا على ذكرها في المقدمة يهز ساقه فإن العرب لم يهزوا حتى سيقانهم ولا ضمائرهم وكأن شيئاً لم يكن، وكأنه لم يتم اقتطاع جزء مقدس من جسد بلاد الشام وفصله عن محيطه الشامي.
ثم جاء فصل لواء إسكندرون ومعظم المدن الحدودية العربية عن الجسد السوري وجرى إلحاقها بتركيا من إسكندرون وأورفا وماردين وغيرها من المدن ذات الأغلبية السكانية العربية والتي مازال سكانها يتحدثون اللهجات السورية إلى اليوم، ومع ذلك لم يتحرك ساكن للسوريين ولم يرف لهم جفن، وبالرغم من أن ما اقتطعته تركيا من الأراضي السورية يساوي ضعف مساحة فلسطين إلا أن أحداً لم يطالب بها إلى اليوم بل تركزت أنظار الجميع للمطالبة بفلسطين والقدس وتناسوا كل الخط الحدودي الذي اقتطعته تركيا ودام الصمت إلى هذه اللحظة.
ثم جاءت المؤامرة الأكبر بفصل لبنان عن سوريا وتأسيس دولة لبنان الكبير، وأيضاً لم نسمع عن اعتراض واحد ولا حتى عن مظاهرة واحدة سجلها التاريخ كرفض لهذه المؤامرة، وأصبح لبنان دولة مستقلة نتمنى لها كل التوفيق ولشعبها كل الحياة الرغدة.
خرجت فرنسا من سوريا في أعقاب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية (البعض يراها انتصرت، ولكن الأميركيين هم الذين حرروها وليست بطولات ديغول، وخير دليل على ذلك إنزال النورماندي)، فلقد كانت فرنسا مدمرة ومنهكة بسبب الحرب العالمية الثانية وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية، وتركت البلاد رهينة عند حكومات ادعت أنها وطنية في حين أنها لم تكن في الحقيقة إلا أشد استعماراً من الفرنسيين أنفسهم ومع ذلك صفق الجميع (ومازلنا نصفق) لتلك الحكومات ونذكرها بالخير إلى أن جاءت الوحدة التي خرجت الحناجر تبح تأييداً لها وتصفق حماسة وتشجيعاً، وما لبثت هذ الوحدة أن انهارت بعد أقل من ثلاث سنوات ومع ذلك لم نسمع عن معترض عن هذا الانفصال أو مظاهرة استنكار لما حدث، صمت مطبق وكأن الصامتين ليسوا هم أنفسهم الذين خرجوا قبل أشهر يهتفون ويزغردون (ناصر نصار ناصر… الله كبير والله).
في أعقاب ذلك جاء البعث إلى السلطة وأيضاً في ظل صمت مطبق، ووقعت دمشق تحت تهديد الدمار بدبابات القادة العسكريين من حزب البعث وتحت خطر الموت بمدفعية رفاق المنهج القومي الواحد (الأرسوزي) إلا أن الجميع وفي كل المحافظات الأخرى بقوا على صمتهم، ولم نسمع نفساً واحداً معارضاً. جاء انقلاب حافظ الأسد عام 1970 على سبطانات المدافع وتهديد الطائرات وجرى اعتقال كل اعضاء قيادة الحزب بمن فيهم أمينه العام صلاح جديد وأيضاً وسط صمت مطبق (لا من تمه ولا كمه كما يقول المثل العامي) .
يتبع