تقرير: جانو شاكر
في ركن خاص بمعرض “الشهيد هركول” للكتاب الذي ينظم سنوياً بمدينة القامشلي شمال شرقي سوريا، أفرد الكاتب الثمانيني عباس إسماعيل خلال أسبوع، العشرات من مؤلفاته. وغير بعيد، ظلت رونا عكيد (12 عاماً)، تشرح لزوار قسمها الخاص بالأطفال، ما يضمه من قصص متنوعة.
المعرض الذي عقدت نسخته الخامسة مطلع آب/أغسطس الفائت، بات يجمع العديد من الفاعلين في الشأن الثقافي، كحال إسماعيل وعكيد وما بينهما من أجيال مختلفة.
وبالرغم من أن المعرض أصبح تظاهرة ثقافية بارزة في مناطق الإدارة الذاتية، ومناسبة سنوية تتيح إمكانية التعرف على حال صناعة الكتاب فيها، نشراً وتأليفاً وترجمة، لكن ثمة تساؤلات حول مسألة صناعة الكتاب في المنطقة، خاصة في ظل وجود عدد من الأطر الثقافية وتنظيم نشاطات بين الحين والآخر.

“قارئ لا نوعي وتحد تكنولوجي”
بالنسبة للصحفي المتخصص بالشأن الثقافي الكردي فريد ميتان، أتاح المعرض إمكانية الكشف عن حال ثقافة القراءة في المنطقة.
فالإقبال على اقتناء الكتاب من جانب رواد المعرض “كان ضعيفاً”، بحسب “ميتان”.
ويقول: “لقد أظهر المعرض كيف أننا لا نزال نفتقر إلى ذلك القارئ النوعي الذي يبحث دائماً عن الإصدارات الجديدة التي تشغل اهتمامه”.
فيما يرى الكاتب والمترجم إبراهيم خليل، أن المعارض لطالما كانت وسيلة هامة لاجتذاب القُرَّاء، “لكن العائق أمام اكتمال دائرة المثاقفة، والذي لاحظه الجميع في معرض هركول للكتاب، كان غلاء أسعار الكتب قياساً إلى معدلات المداخيل الفردية في المنطقة”.
ومن جانبه يجد المترجم والناشر عبدالله شيخو، أن هناك تراجعاً في ثقافة اقتناء الكتاب وثقافة القراءة لدى الناس.
ووفق تصوره فإن “هذا التراجع الذي يشمل سوريا ككل، لا يرتبط فقط بظروف الحرب وغياب استراتيجيات نشر ثقافة القراءة واعتمادها كأساس لبناء المجتمع لدى مختلف الجهات الحاكمة على الجغرافية السورية”.
بل يرتبط أيضاً بأسباب أخرى، تتعلق وفق ما يقول بـ”الغزو التكنولوجي الذي يزاحم الكتاب الورقي على وجه الخصوص”.
ويصف “شيخو”، الذي يدير دار نقش ومقهى بنداروك للكتاب، ما آلت إليه حال ثقافة القراءة جراء التحدي التكنولوجي بالقول: “المعلومات المختصرة والعلم الخفيف والسريع الذي تقدّمه وسائل التواصل الاجتماعي تدفع طبقة كبيرة من الشباب إلى هجر الكتاب”.
“تأليف دون المستوى”
“رغم عمري الكبير الذي قارب الثالثة والثمانين إلا أنني كنت أشعر بحماسة شاب وأنا أشارك في المعرض، أحضر باكراً قبل الجميع، وأغادر مع آخر المشاركين”. هكذا يستعيد الكاتب عباس إسماعيل ذكرى مشاركته الأولى في المعرض.
ويمثل المعرض بالنسبة له أول مناسبة يعرض فيها نتاجه “دون خوف”، كما يتذكر “إسماعيل” أيضاً أن مشاركته اقتصرت حينها على ثلاثة وعشرين مؤلفاً في الأدب والتراث الشفاهي الكردي.
“في النسخة الأخيرة من المعرض وصل نتاجي إلى 33 مؤلفاً نتيجة التشجيع الذي كنت ألقاه خاصة بعد أن نالت عدد من مؤلفاتي جائزة أفضل كتاب كردي في نسخ المعرض المتتالية”.
في السياق ذاته يجد الكاتب عبدالمجيد خلف أن حركة التأليف في شمال شرقي سوريا “نشطت نوعاً ما”، ويقول إن الكتب المؤلفة، سواء أكانت باللغة الكردية أم العربية، شكلت نسبة أكبر من تلك المترجمة.
ويذكر الكاتب الذي أصدر عملين روائيين باللغة العربية في آخر عامين، أن “نسبة الكتب المؤلفة باللغة الكردية ازدادت عما كانت عليه في السنوات السابقة”.
بينما يرى الصحفي فريد ميتان أن “التأليف والإبداع لا يزال دون المستوى”، والسبب بحسب رأيه يعود إلى أن الحرب دفعت بالكثير من الكُتّاب وأصحاب الخبرة إلى الهجرة، رغم رفع المنع عن الثقافة”.

“ظاهرة فردية”
بالانتقال إلى ساحة الترجمة، لا يبدو الحال أفضل، وفق ما يذهب فاعلون في الشأن الثقافي، إذ “ما تزال حركتها قاصرة مقارنة بالتأليف”، بحسب الروائي عبدالمجيد خلف.
ويعيد “خلف” قصور حركة الترجمة إلى أسباب عدة، “من أهمها عدم توفر المختصين في هذا المجال، وقلّة أعدادهم”.
كذلك يرى المترجم إبراهيم خليل، الذي ترجم روايات وكتباً فكرية إلى العربية والكردية خلال العامين الأخيرين، أن “الترجمة من الكردية وإليها لا تزال في إطار التجربة الفردية يقوم بها أفراد محددون ومحدودون، ولم ننجح في تحويلها حتى اليوم إلى ظاهرة جماعية وعمل مؤسساتي منظم وممنهج”.
ورغم أنه يصف محتوى “الكتب المترجمة القليلة” في نسخة المعرض الأخيرة، بـمحتوى “لا بأس به”، إلا أن “خليل” يذهب أيضاً إلى أن “الملاحظة الرئيسية عليها هي إن جميعها كانت تدور ضمن مجال واحد هو الأدب بأجناسه”.
“مرحلة كم”
بخلاف ما سبق، تُظهِرُ لغة الأرقام أن عدد دور النشر المشاركة في المعرض ظل يتصاعد مع تتالي نسخه، كما ازداد معها عدد الكتب والعناوين المعروضة.
فبينما وصل عدد الكتب في نسخة المعرض الثالثة إلى 112 ألف كتاب بـ8500 عنوان، زادت في نسخته الرابعة إلى 120 ألف كتاب بـ11 ألف عنوان، ومن ثم وصلت إلى 130 ألف كتاب بـ13 ألف عنوان في نسخته الأخيرة.
وتقول إدارة معرض “هركول” إن عدد دور النشر المشاركة هذا العام وصل إلى 44 داراً، منها دور نشر محلية، كانت من القامشلي وحلب ودمشق واللاذقية والسويداء، وأخرى عربية، كانت من مصر والعراق ولبنان والإمارات، فضلاً عن دار نشر أجنبية من إيطاليا.
بشكل مماثل يقول الصحفي فريد ميتان إن زيادة الكم لا تقتصر على المعرض وما ضمه من دور نشر وكتب معروضة، بل إن المنطقة بعمومها شهدت تأسيس العديد من الإطارات الثقافية، كما وتنظيم الكثير من النشاطات والمهرجانات الثقافية.
لكنه في المقابل يلفت النظر إلى أن توفر الأجواء الملائمة للنشاط الثقافي، “لا يعني أننا نقترب من الانتقال إلى مرحلة البحث عن التجديد والتركيز على ما هو نوعي بدل الكم”.
ويقول الصحفي الذي يرصد سنوياً عدد العناوين الصادرة بالكردية، “إنها لم تتجاوز الـ50 عنواناً من أصل 13 ألف عنوان قدمه المعرض. من هنا يمكن لنا أن نتصور حال حركة النشر بالكردية في المنطقة”.
وتبعاً لذلك يرى ميتان أن “التوصيف الدقيق لحال حركة النشر في منطقتنا هو أننا لا زلنا بصدد محاولات لتأسيس حركة نشر في ظل ظروف استثنائية وغير طبيعية”.
من جهته يشدد “شيخو” على أن “لا وجود لصناعة كردية حقيقية للكتاب في سوريا حتى الآن، وأنها لا تزال محصورة ضمن محاولات يجب أن تركّز على التحضير للغد”.
ويضيف أن “لظروف الحرب تأثير كبير على صناعة الكتاب في البلاد عموماً، وأن الانهيار الاقتصادي أثّر على المقدرة الشرائية وعلى صناعة الكتاب وإمكانيات نشره”.
“هناك حروب وصراعات أدت إلى انهيار المجتمع الذي بات يرى في الكتاب رفاهيةً وعبثاً لا طائل منه ويمكن الاستغناء عنه”، بحسب “شيخو”.
والنظم التعليمية في مختلف المناطق السورية، بحسب رأيه “كانت وما تزال تحصر التعليم في الكتب المدرسية التلقينية ولا تشجّع الطالب على القراءة والمطالعة”.
احتفاء بقسم الأطفال
خلال النسختين الأخيرتين من المعرض كان من شأن افتتاح قسم خاص بالأطفال أن يضفي جديداً على فعالياته، فالخطوة أفسحت فرصة لكي تجد الكثير من العائلات ما تقتنيه لأطفالها من قصص خلال زياراتها التي كانت تقتصر غالباً على التجول وربما التصوير بين ردهاته وأقسامه.
وقد لاقى تكليف الناشطة رونا عكيد بإدارة قسم الأطفال في المعرض، التشجيع من قبل العديد من الكتاب كحال عباس اسماعيل، فيما لم تخفِ الناشطة فرحتها بإدارة قسم الأطفال في المعرض للسنة الثانية على التوالي.
وتقول “عكيد” التي كانت تشارك متابعيها على مواقع التواصل يومياتها في المعرض، إن اهتمامها بعالم كتب الأطفال جاء قبل سنوات، وافتتحت مؤخراً مكتبة خاصة بكتب الأطفال في المدينة.
لكن “هذا التطور بالمقارنة مع سنوات حكم النظام السوري والأعوام الأولى من الحدث السوري، لا يتناسب مع المأمول”، وفق ما يذهب إليه “شيخو”.
ويحتاج تحسين صناعة الكتاب في المنطقة، بحسب عبدو شيخو إلى “خطط مدروسة ودعم مادي ومعنوي ضخم من قبل الإدارة الذاتية وهيئاتها العاملة في المجالين التربوي والثقافي”.
وهذه الخطط، بحسب رأيه، يتوجب أن تشمل “دعم دور النشر الخاصة والحكومية وتأسيس مراكز ثقافية ولغوية حيوية كمجامع اللغة ومراكز بحثية ومراكز ثقافية فاعلة في مختلف المدن والنواحي والقرى ونشر ثقافة القراءة كحاجة إنسانية أساسية لا غنى عنها”.
بينما يضيف الكاتب والمترجم إبراهيم خليل أن دعم الثقافة وصناعة الكتاب يحتاجان إلى تأسيس مركز وطني للترجمة، بالإضافة إلى دعم معارض الكتاب مادياً من قبل هيئة الثقافة في الإدارة الذاتية، وإقامة مسابقات دورية بجوائز مجزية في جميع فروع العلوم والآداب.
في آخر أيام المعرض تزامن إعلان الكاتب عباس إسماعيل على حسابه في موقع فيسبوك عن تكريمه من جانب هيئة الثقافة في الإدارة الذاتية عبر طباعة ثلاثة من مؤلفاته، مع ما نشرته الناشطة رونا على مواقع التواصل، من صور تكريم حظيت به من جانب اللجنة التحضيرية للمعرض تقديراً لمشاركتها وجهودها خلال أسبوع من عمر المعرض.
ويقول صاحب عبد شيخو الذي ترجم عدداً من روايات الأديب سليم بركات إلى الكردية، إن “الأمل معقود على عشرات الآلاف من الأطفال الكرد الذين يتعلّمون بلغتهم الأم اليوم”.
ويضيف: “هؤلاء سيشكّلون طبقة القرّاء المستقبلية التي ستدفع نحو تشكيل سوق نشر حقيقية بالكردية”.