اعتاد التاريخ العربي على إطلاق صفات سيئة على كل حركات التمرد ضد الظلم والذل التي عرفها تاريخ العرب منذ صعاليك الجاهلية وحتى يومنا الحاضر، فلا ثورة على (أكابر البلد) كما يسميهم المؤرخون ويقصدون التجار وأصحاب رؤوس الأموال، إلا وكانت ثورة لصوص وعيارين وشطار حتى وصل الحال بوصف بعض تلك الثورات بالزندقة والكفر مثل (ثورة العبيد).
ويفاجئنا مؤرخون مثل (الطبري) و(ابن كثير) وغيرهما بانحياز واضح للسلاطين و(أكابر البلد) وأصحاب المال رغم أن أولئك (الشطار والعيارين لعبوا دوراً إيجابياً في الدفاع عن عروبة الخلافة العباسية، على سبيل المثال، فلقد سجل المؤرخون (عنوة وبالرغم عن إرادتهم) تضحيات العيارين والشطار في سبيل الدفاع عن خلافة الأمين العربي ضد أخيه المأمون المدعوم من الفرس، ذلك أن حركات التمرد الاجتماعي لا تظهر إلا في ظروف مشابهة من تصدع الدولة وبعد تجاوزها الحضاري إلى التفكك والاقتتال الداخلي طمعاً بالعرش، كما تأتي هذ الحركات المتردة ضد التفاوت الطبقي الكبير في المجتمع الإسلامي الذي بدأ مع دولة تزدهر لقوادها وتضن بالعيش الكريم على شعوبها.
(لكـن هـذه الـظـاهـرة بـدأت تـلـفـت نـظـر المؤرخين منذ فتنة الأمين والمأمون، فما تكاد جيوش ألمأمون بقيادة طـاهـر بن الحسين تقتـرب مـن بـغـداد سـنـة ١٩٦هـ إبان الفتنـة الـكـبـرى بـيـنـه وبـين الأمين، وهي الحرب التي استمرت أربعة عشر شهراً وكانت في أهم جوانبها وأخطر مراحلها حرباً بين العجم والعرب، حتى ثار العامة في بغداد دفاعاً عن الخليفة الشرعي (ونقب أهل السجون وخـرجـوا مـنـهـا وفر الـنـاس وساءت حالهم ووثب الشطار على أهل الصلاح) كما يسميهم أبن الأثير.
ويقصد ابن الأثير بأهل الصلاح كبار التجار والأثرياء والقواد. وقد ثار عليهم الشطار لتخاذلهم في نصرة الخليفة الأمين، وما كادت جيوش المأمون تحاصر بغداد وترميها بالمجانيق والعرادات سنة ١٩٧ هجرية حتى هرب معـظـم قـواده (دب الخراب فيهـا قـتـلاً وهـدمـاً وحـرقـاً وتراجع الأمين وتخاذل جنده واستأمن معظمهم.. ولم يصمد في هذه العـركـة إلا عامة بغداد.. أو كما يقول ابن جرير الطبري «فذلت الأجناد وتواكلت عن الـقـتـال إلا بـاعـة الـطـريـق والـعـراة وأهـل الـسـجـون والأوبـاش والــرعــاع وهؤلاء هم أنفسهم الذين يسميهم ابن الأثير (والطرارين وأهل السوق) و(الغوغاء والفساق).
فعلى الرغم من تضحياتهم في الدفاع عن الخليفة الشرعي وعن عروبة الخلافة فإن المؤرخين يصرون على إطلاق تسميات وصفات اللصوصية والعيارة على أولئك الذين قاتلوا بأجسادهم العارية دفاعاً عن عروبة بغداد فيما هرب الجنود والقادة والتجار.
هذا هو ديدن المؤرخين العرب منذ عهد الصعاليك حين وصفوهم باللصوص والخارجين على أهلم وأسرهم فيما كانت حركة الصعلكة في حقيقتها حركة تمرد على تمركز الثروة والقوة والنفوذ في يد زعماء القبائل وتهميش باقي أفراد القبيلة، فكانت المراعي الجيدة للزعيم والإبل القوية للزعيم والخيول الأصيلة من حق الزعيم، ومع دخول القوافل التجارية إلى البادية وحاجتها للحماية كانت الدول والتجار تدفع للقبائل معلوماً من المال لحماية القوافل ومنعاً من مهاجمتها ونهب بضائعها، فكان أن ازدادت ثروة الزعيم على حساب حرمان القبيلة من عوائد مرور القوافل.
وحين أعلن أبو ذر الغفاري صرخته الأولى للخروج (عجبت لمن لا يجد في بيته قوت يومه لا يخرج إلى الناس شاهراً سيفه) تشكلت جماعات الخوارج التي يصفها التاريخ حتى الآن بالخروج على الدين فيما كانت حركتهم (على تطرفها) ثورة في وجه عودة رأسمال قريش للسيطرة على الإسلام فيما رأوا فيه انقلابا على تعليمات النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدين تخزين الثروة وتكديسها في أيدي فئة قليلة على حساب عامة الناس (والذين يكنزون الذهب والفضة…) ولكن التاريخ يصر على اعتبار الخوارج لعنة في جبهة التاريخ الإسلامي.
مع وصولنا إلى التاريخ العباسي الذي بدأنا به حديثنا نلاحظ أن البلاذري وابن كثير وابن عساكر والطبري وجمع آخر من المؤرخين لم ينظروا إلى حركات التمرد بإنصاف، لأن رؤيتهم كانت عبر أعين الملوك وسكان البلاط والتجار (وأكابر البلد).
وكذلك يطالعنا (الجبرتي) بأحاديث مطولة عن تمردات ضد المماليك ولكنه يصنفها (كسابقيه) في خانة الخروج على الدولة ومحاولات تقسيمها والتآمر على الدين والإسلام ورأس الدولة، رغم أن التآمر عند المماليك كان محصوراً تقريباً فيما بينهم، فخلال 300 سنة من حكمهم تسلم السلطنة 260 سلطاناً معظمهم مات قتلاً نتيجة التآمر بين القادة العسكرين، حتى أن آخر سلاطينهم (قانصوه الغوري) بكى حين عينوه سلطاناً ورفض المنصب لمعرفته الأكيدة بأن مصيره سيكون كمصير سابقيه (القتل نتيجة مؤامرة) ولكن القادة أقسموا له على المصحف أنهم لن يقتلوه فيما لو قرروا عزله، ولكنه مات قتلاً على يد العثمانيين.
في عصرنا الحاضر تتواصل التهم بالتآمر والعمالة لكل حركة تمرد تهدف لقلب الأوضاع غير السوية وإعادة تصحيحها، فكل ثورة شعبية في نظر الإعلام العربي هي حركة رعاع وجهلة أو عملاء ومتآمرين، وكأن سكان القصور والبلاط هم شرفاء القوم وهم حراس الوطن وحراس حدوده وسيادته، في حين أن الحقائق تقول إنه لم يدفع الثمن غير الفقراء، فلم يسجل حتى اللحظة مقتل قائد واحد في كل هذه الثورات ولم يتم جرح ابن قصر واحد، وإن كل الضحايا من عامة الناس والفقراء وبسطاء البلد، فالضحايا من كلا الطرفين (ثواراً وأنظمة) هم دراويش الناس وصغار الكسبة أو العاطلين عن العمل، فيما يبقى التجار و(أكابر البلد) من الطرفين في قصورهم ومكاتبهم دافعين بالفقراء للدفاع عن مصالح القصر أو مصالح الجهة الساعية للسكن في القصر.