لو تحدثت إلى أي مثقف سوري أو مدعي ثقافة حول الاختلاف لألقى عليك خطاباً طويلاً مملاً حول وجوب احترام الاختلاف وحق الآخر في الاختلاف، وأن الاختلاف سنة الكون أصلاً، ولكن حين تقترب من المسألة الكردية وحق الأكراد في تأكيد اختلافهم، ستخرج عيناه من وجه وتنتفخ وجنتاه ولكشّر عن نواجذه وتصبب عرقه على جبينه ورقبته ليقول لك إن وضع الأكراد مختلف وإن استمررت معه في النقاش سيتهمك بالخيانة والتآمر على وحدة البلد، وكأن حصول الأكراد على حقوقهم القومية خيانة للوطنية وللقومية!! وبعد فترة من ممارستك حقك بإبداء رأيك بالموضوع يتمادى هو في إبداء رأيه بأمك وأختك وشرفك.
الإسلامي يعتبر مطالبة الأكراد بحقوقهم القومية مؤامرة على الدين وتمزيقاً لوحدة المسلمين وكأن المسلمين موحدون و(خزيت العين عليهم) بل إن المتطرف منهم لا يعترف أساساً بوحود أكراد ويراهم أتراكاً نزحوا إلى المنطقة مطلع القرن الماضي.
كما قال ذات مرة أحد زعماء الإخوان المسلمين السابقين مدعياً أن عمر الأكراد في المنطقة لا يتعدى المائة سنة، وهذا تصريح يكشف جهل هذا الزعيم السابق حتى في الدين والدراسات الدينية.
فلو كان قرأ (ابن كثير) على سبيل المثال لأدرك الدور الكردي في تاريخ المنطقة الذي يمتد على أقل تقدير إلى ألف عام ، كما ذكر كثيرون غيره من المؤرخين في معرض حديثهم عن الانتفاضات التي شهدها المجتمع الإسلامي خلال ضعف الدولة العباسية واضطرابها .
أما القومجيون فإنهم لا يقلون تشدداً عن رفاقهم الإسلاميين، فالقومي يرى أن العروبة جاءت مع الاسلام وبالتالي فهم رفاق خندق واحد على الرغم من محاولات القومجيين الظهور بصورة العلمانيين والمتجاوزين لتدخل الدين في الدولة، بينما قوميتهم ذاتها تقوم على أسس دينية ومن يريد الاستزادة من الموضوع عليه مراجعة أعمال زكي الأرسوزي وآرائه بالقومية العربية.
كما أن تصريحات بعض المثقفين القومجيين الذين هاجموني خلال زيارتي إلى القامشلي وتصريحاتي هناك خير دليل على الربط بين الدين والقومية، وهي دليل أيضاً على (تقية) أولئك المثقفين الذين يعلنون احترامهم للاختلاف ثم (يجعرون) و(يعرون) حين يتعلق الأمر باختلاف الأكراد أو باختلاف مكون سوري عن الآخر، وكأن هذا الاختلاف هو مؤامرة وأن من يتحدث عن هذا الاختلاف هو من اخترعه واكتشفه، في حين أن كل حقائق التاريخ والحاضر تؤكد على أن هذا الاختلاف كان نتيجة مئات السنين من الحفر في عادات وتقاليد وعقائد لها خصوصيتها وتتميز عن غيرها من خصوصيات باقي المكونات السورية.
هذا المشتل السوري الذي لا يريد مثقفو القومية رؤيته، وهم حين يضعون أيديهم على أعينهم إنما يرون كل الناس عمياناً، والحقيقة هي أنهم هم العميان ويحاولون تعمية غيرهم عبر الصراخ والضجيج كالعربات الفارغة .
المشتل السوري يحتوي مجموعة من الورود بل مجموعة من الزراعات قد لا تكون ورداً وزهراً، فهناك أشجار وأعشاب وأزهار وهناك المثمر وغير المثمر …إلخ.
كلها تمتد على مساحة هذا المشتل ورؤية هذا التنوع في المشتل لا تعني أبداً أننا نريد تقسيمه بل نريد من الجميع رؤية هذا التنوع والاعتراف بوجوده وبالاختلافات الموجودة بين مساكبه، سواء في الطعم أو الاستعمال أو الأطوال والمساحات وطريقة وموسم الزراعة.
وهناك خلاف في كل شيء وهذا ما ينبغي أن يراه الجميع ويقر به، وهذا الإقرار لا يعني أننا ندمر المشتل وننهي وجوده، بل على العكس فإن المنكرين لتنويعه بجعير ونواح هم الذي يسعون لقتل هذا المشتل والقضاء على محتوياته لتبقى نبتة واحدة فقط هي الموجودة وهذا لن يحدث بأي حال من الأحوال.
الهوية المعاصرة هوية متعددة الأوجه والتباينات (ولعلها كانت كذلك دوماً)، فالشخص الواحد يحمل عدة هويات في وقت واحد، والواهمون وحدهم من يرفضون رؤية ذلك، والعميان وحدهم غير قادرين على رؤية ذلك، و(التقية) وحدها هي التي تمنع الاعتراف بتميزات التنوع السوري بين مكوناته في العادات والتقاليد والعقائد وطرق ممارسة تلك العقائد والشعائر. وبات واضحا أن المسألة تتعلق بالأكراد بالدرجة الأولى بهدف سد الطريق على المكونات الأخرى التي بدأت تطالب بالاعتراف بحقها في التميز، ولكن يبدو أن البعض يرى أن حق الاختلاف مسموح للجميع ما عدا الكردي وباقي الأقليات، فعلى الجميع الاندماج قسراً في هوية واحدة تفرضها الأكثرية، ولسوف يكون لنا نقاش آخر حول دور هذه الأكثرية في لجوء الأقليات إلى حلول سياسية كانت الوحيدة المتاحة للتعبير عن وجودها