أردوغان والصورة المكلفة

ما فشل فيه أردوغان، في واشنطن خلال الأيام القليلة الفائتة إبان تواجده في نيويورك، من لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن والتقاط صورة إلى جانبه، عوّضه في سوتشي خلال لقاء نظيره الروسي بوتين، ذلك أن العدّة الرسميّة للرئيس التركي في صياغة صورته زعيماً عالمياً، ترتكز في جزء منها، على منطق التشاوف وإظهار التجهّم في لقاءاته ورؤساء الدول الأقل شأناً، فيما يعكس التقرّب إلى زعماء الدول العظمى في مقابل ذلك رغبةً في إظهار نفسه ندّاً ونظيراً وقائد “دولة عظيمة”، ورغم أن هذا يجافي الحقائق عند المقارنة بين تركيا وبين دول بحجم أميركا والصين وروسيا وألمانيا وفرنسا، إلّا أنه يضمر بعداً مشهدياً يسعى إليه أردوغان، وهو ما يتحكّم في سلوكه على الدوام.

خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، أواخر هذا الشهر، لم يحظَ أردوغان بلقاء يجمعه والرئيس الأميركي؛ وهو ما يسبب جرحاً نرجسياً للرئيس التركي لا يمكن نسيانه، وقد كان الرئيس السابق دونالد ترامب يعي أهمية هذه المسألة لدى أردوغان وأنها جزء من عدّة الأخير الدعائية وأداة تعويمه داخلياً وإقليمياً، بيد أنّ لا مبالاة بايدن في تقديم مثل هذا العون يدفع أردوغان للدخول في نوبات إنفعال ليس آخرها تصريحه الذي تلى عودته من نيويورك إذ اتهم الولايات المتحدة بـ”تزويد الإرهابيين بالسلاح” وأن هذا التصرّف لن يمرّ دون ردّ تركيّ، ولعل ما زاد من غضبه كان الاهتمام ببعثة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) ولقائهم مسؤولين ونواب وباحثين، ثم التصريحات التي أدلى بها قادة قسد ومسد فيما خص “طمأنة” الولايات المتحدة لحلفائها في شمال شرقي سوريا.

ما تحكّم، وما زال يتحكّم، في سلوك تركيا كانت رحلة “الصعود” الصعبة والمتعبة، وحتى الدامية، لكرد سوريا، وجعل هذا الصعود المباغت مقياساً في العلاقة مع الدول والحلفاء، بل إن كل “إستدارة”  أو “انعطافة” لتركيا الأطلسية صوب روسيا تفسّر على ضوء الصعود الكردي والرغبة في احتوائه وتحطيم الكيانية الثقافية والسياسية في شمال شرقي سوريا، وقد باتت بذلك محور اهتمام أنقرة إلى درجة أن المسألة الكردية في سوريا تفوّقت على مسائل وملفّات أخرى، إن لم نقل أنّها نسختها.

السعي التركي المحموم لدفع حليفتها الأطلسية للانسحاب من شأنه أن يقوّض الحضور الكردي، وينزع غطاء الحماية عنهم، لكنه في موازاة ذلك ينزع الغطاء عن تركيا أيضاً ويضعها في مواجهة غير متكافئة مع روسيا، وإذا كان عديد قتلى الجيش التركي وفصائل المعارضة المسلّحة على يد الجيش الروسي قد لا يجد له أي مقابل قامت به القوات الأميركية فإن عدّاد القتلى قد يواصل الارتفاع حال خروج واشنطن، وجدير بالإشارة أنّ روسيا تستبق أي لقاء يجمع رسمييها بنظرائهم الأتراك بعمليات قصف مذلّة لفصائل المعارضة، وبما يشي إلى رغبة في إخضاع تركيا. لكن رغم ذلك تفضّل أنقرة المضي في العلاقة المضطربة مع روسيا والمفتوحة على أكثر من جبهة قلقة ومكان، من القرم إلى ليبيا فأوكرانيا وأذربيجان وبالطبع سوريا، فيما لم تخفّض الوشائج الاقتصادية والتزوّد بالأسلحة الروسية من حدّة الصراع الاستراتيجي والتسابق على مناطق النفوذ.

فور انتهاء قمة الرئيسين التركي والروسي الأخيرة في سوتشي، نشر الرئيس التركي صورة تجمعه بنظيره الروسي، وهو مدار العمل الدعائي الذي يسعى إليه أردوغان، فيما علّق على اللقاء الذي لم يرشح عنه شيء بأنه كان “مثمراً”، رغم أن شجرة العلاقات بين البلدين لم تثمر كما ينبغي مذ سعت أنقرة إلى التفاهم مع موسكو في المجال السوري، تحديداً بعد أن أسقطت تركيا المقاتلة الروسية سو35، بل إن الوقائع تشير إلى صيغ إذعان متكررة قبلت بها تركيا منذ أن خطت باتجاه عقد اتفاقات منفردة في سوتشي ودون غطاء أميركي دافئ، وبطبيعة الحال كان “ظفر” تركيا بعفرين واحتلالها، المنحة الوحيدة التي تحصّلت عليها حتى اللحظة.

في الأثناء تُطوّر المعارضة التركية من أدواتها وبرامجها فيما خص تصوّراتها لحل الأزمة السورية وكذا التعاطي المقبل مع ملف اللاجئين، وهما المسألتين الأكثر إثارة لحفيظة العدالة والتنمية الذي تصوّره المعارضة حُكماً غارقاً في أوحال صراع كان يمكن تجنّبه أو تخفيف آثاره، وبدوره يشير كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، إلى إمكانية حل الأزمة بالتفاهم مع دمشق وعبر المساهمة في إعمار ما دمّرته الحرب وبالتالي إعادة اللاجئين، فيما يصوّر أردوغان على أنه يدور في دائرة مفرغة، لذا فإنّ تنامي سؤال الأزمة السورية داخل تركيا يهدّد شعبية الحزب الحاكم والذي بات مطالباً أكثر من أي وقت مضى بإيجاد حل وإن كان عبر بوابة بوتين الضيّقة والذي لن يمنح أردوغان أي نقاط يمكن أن ينسبها لنفسه.

ثمة خطاب مظلومية يكثر أردوغان من استخدامه عبر شكاياته المتكرّرة من اختلاف رؤيته ودوره عن رؤية ودور الأميركان في الملف السوري، ويضاعف من هذه المظلومية المزعومة لامبالاة بايدن تجاه تدنّي شعبية أردوغان أو إخفاقاته السياسية والاقتصادية، وأيضاً تجاوز رغبته في الصعود على أطلال المناطق الكردية السورية، غير أن حاجة الرئيس إلى صُور تبقيه على قيد الحياة السياسية تدفعه على نحوٍ قاسٍ إلى حيث يقف المصوّرون في الكرملين وسوتشي حتى وإن كان الثمن التراجع عن سياساته في سوريا.